الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ

صفحة 237 - الجزء 1

باب فى الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ

  وإغفالها المعانى

  اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربيّة، وأكرمها، وأعلاها، وأنزهها.

  وإذا تأمّلته عرفت منه وبه ما يؤنقك، ويذهب فى الاستحسان له كل مذهب بك.

  وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذّبها وتراعيها، وتلاحظ أحكامها، بالشعر تارة، وبالخطب أخرى، وبالأسجاع التى تلتزمها وتتكلّف استمرارها، فإن المعانى أقوى عندها، وأكرم عليها، وأفخم قدرا فى نفوسها.

  فأوّل ذلك عنايتها بألفاظها. فإنها لمّا كانت عنوان معانيها، وطريقا إلى إظهار أغراضها، ومراميها، أصلحوها ورتّبوها، وبالغوا فى تحبيرها وتحسينها؛ ليكون ذلك أوقع لها فى السمع، وأذهب بها فى الدلالة على القصد؛ ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لذّ لسامعه فحفظه، فإذا هو حفظه كان جديرا باستعماله، ولو لم يكن مسجوعا لم تأنس النفس به، ولا أنقت لمستمعه، وإذا كان كذلك لم تحفظه، وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له، وجيء به من أجله. وقال لنا أبو علىّ يوما: قال لنا أبو بكر: إذا لم تفهموا كلامى فاحفظوه، فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه. وكذلك الشعر: النفس له أحفظ، وإليه أسرع؛ ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعيا جلفا، أو عبدا عسيفا، تنبو صورته، وتمجّ جملته، فيقول ما يقوله من الشعر، فلأجل قبوله، وما يورده عليه من طلاوته، وعذوبة مستمعه ما يصير قوله حكما يرجع إليه، ويقتاس به؛ ألا ترى إلى قول العبد الأسود⁣(⁣١):

  إن كنت عبدا فنفسى حرّة كرما ... أو أسود اللون إنى أبيض الخلق

  وقول نصيب:

  سودت فلم أملك سوادى وتحته ... قميص من القوهىّ بيض بنائقه⁣(⁣٢)


(١) هو سحيم عبد بنى الحساس. وانظر الأغانى ص ٢ ج ٢٠ طبعة بولاق، والديوان ٥٥. (نجار).

(٢) البيت من الطويل، وهو لنصيب فى ديوانه ص ١١٠، وتاج العروس (سود)، (قوه)، (نبق)، أو الأشباه والنظائر ٦/ ٢٧، والأغانى ١/ ٣٣٣، وذيل الأمالى ص ١٢٧، وشرح المفصل =