الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى اللفظين على المعنى الواحد

صفحة 228 - الجزء 1

  العالم، وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله الثانى الذى به يقول وله يعتقد، وأن الأضعف منهما هو الأوّل منهما الذى تركه إلى الثانى. فإن تساوى القولان فى القوّة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له؛ فإنّ الدواعى إلى تساويهما فيهما عند الباحث عنهما هى الدواعى التى دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلا منهما.

  هذا بمقتضى العرف، وعلى إحسان الظن؛ فأمّا القطع الباتّ فعند الله علمه.

  وعليه طريق الشافعىّ فى قوله بالقولين فصاعدا. وقد كان أبو الحسن ركّابا لهذا الثّبج⁣(⁣١)، آخذا به، غير محتشم منه، وأكثر كلامه فى عامّة كتبه عليه. (وكنت إذا ألزمت عند أبى علىّ | قولا لأبى الحسن شيئا لا بدّ للنظر من إلزامه إيّاه يقول لى: مذاهب أبى الحسن كثيرة).

  ومن الشائع فى الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبّع به كلام سيبويه، وسمّاه مسائل الغلط. فحدّثنى أبو علىّ عن أبى بكر أن أبا العبّاس كان يعتذر منه ويقول: هذا شيء كنّا رأيناه فى أيّام الحداثة، فأمّا الآن فلا. وحدّثنا أبو علىّ، قال: كان أبو يوسف⁣(⁣٢) إذا أفتى بشئ أو أملّ شيئا، فقيل له: قد قلت فى موضع كذا غير هذا يقول: هذا يعرفه من يعرفه؛ أى إذا أنعم النظر فى القولين وجدا مذهبا واحدا.

  وكان أبو علىّ | يقول فى هيهات: أنا أفتى مرّة بكونها اسما سمى به الفعل؛ كصه ومه، وأفتى مرّة أخرى بكونها ظرفا، على قدر ما يحضرنى فى الحال. وقال مرّة أخرى: إنها وإن كانت ظرفا فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسما سمّى به الفعل؛ كعندك ودونك. وكان إذا سمع شيئا من كلام أبى الحسن يخالف قوله يقول: عكّر الشيخ. وهذا ونحوه من خلاج الخاطر، وتعادى المناظر، هو الذى دعا أقواما إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلّة، واحتملوا أثقال الصّغار والذّلّة.

  وحدّثنى أبو على: قال: قلت لأبى عبد الله البصرىّ: أنا أعجب من هذا


(١) ثبج كل شيء: معظمه ووسطه وأعلاه، والجمع أثباج وثبوج.

(٢) هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشىّ الزهرىّ أبو يوسف المدنى، نزيل بغداد، من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل، مات سنة ٢٠٨، انظر تهذيب الكمال ٣٢/ ٣١٠.