الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

الدلالة الصوتية فى الدراسات الحديثة

صفحة 50 - الجزء 1

  فى مجراها.

  ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}⁣[الفتح: ١٠].

  فالملاحظ فى هذه الآية أنها هى الآية الوحيدة فى القرآن التى جاء ضمير الغائب الموصول فيها مضموما؛ لأن القاعدة الشائعة فى مجيئه فى القرآن هى الكسر فيقال (عليه) بالكسر لا بالضم؛ وذلك كما فى قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}⁣[الأحزاب: ٣٧]. وكما فى قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}⁣[يونس: ١٢٣].

  ومن ثم يمثل الضم فى هذه الكلمة عدولا عن القاعدة الصوتية القرآنية، فيا ترى ما سر هذا العدول؟

  إذا تأملنا سياق الآية وجدناها تتحدث عن مبايعة المؤمنين لرسول الله ÷ وتعظيم الله تعالى تلك البيعة ووصفها بأنها مبايعة له هو سبحانه، وإذا كانت البيعة لله رب العالمين فإن حقها التفخيم والتغليظ والتشديد والتوثيق، ولذا جاء الضمير فى (عليه) مضموما إشعارا بذلك التفخيم، وذلك ما لا يوحى به مجئ الضمير على أصل القاعدة مكسورا فى هذا السياق، وأمر آخر يكشف عن القيمة الفنية لهذا العدول الصوتى، وهو أن حركة الحرف السابق على لفظ الجلالة تؤثر فيه بالتفخيم والترقيق حسب القاعدة الصوتية لنطق هذا اللفظ فى القرآن الكريم؛ فإذا جاءت الهاء فى (عليه) مكسورة كانت اللام من لفظ الجلالة مرققة، أما حيث جاءت الهاء مضمومة فإن اللام من لفظ الجلالة تنطق مفخما فيتناسب تفخيم لفظ الجلالة مع ما يقتضيه السياق من تعظيم المعاهد، وتفخيم شأنه، والتحذير من نكث العهد معه.

  ومن مظاهر العدول الصوتى فى القرآن الكريم كذلك، ذلك العدول بفك الإدغام فى لفظة (يحببكم) فى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}⁣[آل عمران: ٣١] فالقاعدة الصوتية هنا هى الإدغام كما فى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}⁣[المائدة: ٥٤].