الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى إمساس الألفاظ أشباه المعانى

صفحة 509 - الجزء 1

  فهذا طريق المثل واحتياطاتهم فيها بالصنعة، ودلالاتهم [منها] على الإرادة والبغيّة.

  فأمّا مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج متلئبّ عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها، فيعدّلونها بها ويحتذونها عليها. وذلك أكثر ممّا نقدّره، وأضعاف ما نستشعره.

  من ذلك قولهم: خضم، وقضم. فالخضم لأكل الرّطب؛ كالبطّيخ والقثّاء وما كان نحوهما من المأكول الرّطب. والقضم للصّلب اليابس؛ نحو قضمت الدابّة شعيرها، ونحو ذلك. وفى الخبر «قد يدرك الخضم بالقضم» أى قد يدرك الرخاء بالشدّة، واللين بالشّظف. وعليه قول أبى الدرداء: (يخضمون ونقضم والموعد الله) فاختاروا الخاء لرخاوتها للرّطب، والقاف لصلابتها لليابس؛ حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث.

  ومن ذلك قولهم: النضح للماء ونحوه، والنضخ أقوى من النضح؛ قال الله سبحانه: {فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ}⁣[الرحمن: ٦٦] فجعلوا الحاء - لرقّتها - للماء الضعيف، والخاء - لغلظها - لما هو أقوى منه.

  ومن ذلك القدّ طولا، والقطّ عرضا. وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعا له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض؛ لقربه وسرعته، والدال المماطلة لما طال من الأثر، وهو قطعه طولا.

  ومن ذلك قولهم: قرت الدم، وقرد الشئ، وتقرّد، وقرط يقرط. فالتاء أخفت الثلاثة، فاستعملوها فى الدم إذا جفّ؛ لأنه قصد ومستخفّ فى الحسّ عن القردد الذى هو النّباك فى الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء - وهى أعلى الثلاثة صوتا - (للقرط)⁣(⁣١) الذى يسمع. وقرد من القرد؛ وذلك لأنه موصوف بالقلّة والذلّة؛ قال الله تعالى: {فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ}⁣[البقرة: ٦٥].

  ينبغى أن يكون (خاسئين) خبرا آخر لـ (كونوا) والأوّل (قردة) فهو كقولك:


(١) يقال: قرط الكراث: قطعه فى القدر، والقرط يسمع له صوت إذ كان قطعا وشقا.