الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

مقدمة المؤلف

صفحة 78 - الجزء 1

  ومما جاء منه فى الكلام قول الآخر:

  فصبّحت والطير لم تكلّم ... جابية طمّت بسيل مفعم⁣(⁣١)

  وكأن الأصل فى هذا الاتّساع إنما هو محمول على القول؛ ألا ترى إلى قلّة الكلام هنا وكثرة القول؛ وسبب ذلك وعلّته عندى ما قدّمناه من سعة مذاهب القول، وضيق مذاهب الكلام. وإذا جاز أن نسمّى الرأى والاعتقاد قولا، وإن لم يكن صوتا، كانت تسمية ما هو أصوات قولا أجدر بالجواز. ألا ترى أن الطير لها هدير، والحوض له غطيط، والأنساع لها أطيط، والسحاب له دوىّ. فأمّا قوله: وقالت له العينان سمعا وطاعة فإنه وإن لم يكن منهما صوت، فإن الحال آذنت بأن لو كان لهما جارحة نطق لقالتا: سمعا وطاعة. وقد حرّر هذا الموضع وأوضحه عنترة بقوله:

  لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى ... ولكان - لو علم الكلام - مكلّمى⁣(⁣٢)

  وامتثله شاعرنا⁣(⁣٣) آخرا فقال:

  فلو قدر السنان على لسان ... لقال لك السنان كما أقول

  وقال أيضا:

  لو تعقل الشجر التى قابلتها ... مدّت محيّية إليك الأغصنا

  ولا تستنكر ذكر هذا الرجل - وإن كان مولّدا - فى أثناء ما نحن عليه من هذا


(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (طمم)، (فعم)، (كلم)، وتاج العروس (فعم).

(٢) البيت من الكامل، وهو لعنترة فى ديوانه ص ٢١٨، ولسان العرب، (قول)، وتاج العروس (قول). وعجز البيت يروى:

* أو كان يدرى ما جواب تكلّمى*

(٣) يريد بقوله شاعرنا المتنبى، وكان ابن جنى يحضر عند المتنبى الكثير، يناظره فى شيء من النحو، وكان المتنبى يعجب به وبذكائه وحذقه. ويقول: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، ويقول ابن جنى فى المحتسب وقد استشهد ببيت للمتنبى: «ولا تقل ما يقوله من ضعفت نحيزته، وركت طريقته: هذا شاعر محدث، وبالأمس كان معنا، فكيف يجوز أن يحتج به فى كتاب الله - جل وعز -! فإن المعانى لا يرفعها تقدّم، ولا يزرى بها تأخر، ولابن جنى شرحان على ديوان المتنبى. انظر البغية ومعجم الأدباء. (النجار).