باب القول على أصل اللغة إلهام هى أم اصطلاح؟
  قيل: اعتمد(١) ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة، ولا بدّ لكل كلام مفيد من الاسم، وقد تستغنى الجملة المستقلّة عن كل واحد من الحرف والفعل، فلمّا كانت الأسماء من القوّة والأوّلية فى النفس والرتبة، على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها مما هو تال لها، ومحمول فى الحاجة إليه عليها. وهذا كقول المخزومىّ:
  الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسى بأشقر مزبد(٢)
  أى فإذا كان الله يعلمه فلا أبالى بغيره سبحانه، أذكرته واستشهدته أم لم أذكره ولم أستشهده. ولا يريد بذلك أنّ هذا أمر خفىّ، فلا يعلمه إلا الله وحده، بل إنما يحيل فيه على أمر واضح، وحال مشهورة حينئذ، متعالمة. وكذلك قول الآخر:
  الله يعلم أنا فى تلفتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور(٣)
  وليس بمدّع أن هذا باب مستور، ولا حديث غير مشهور، حتى إنه لا يعرفه أحد إلا الله وحده، وإنما العادة فى أمثاله عموم معرفة الناس به لفشوّه فيهم، وكثرة جريانه على ألسنتهم.
  فإن قيل: فقد جاء عنهم فى كتمان الحب وطيّه وستره والبجح(٤) بذلك، والادّعاء له ما لا خفاء به؛ فقد ترى إلى اعتدال الحالين فيما ذكرت.
  قيل: هذا وإن جاء عنهم، فإن إظهاره أنسب(٥) عندهم وأعذب على مستمعهم؛ ألا ترى أن فيه إيذانا من صاحبه بعجزه عنه وعن ستر مثله، ولو أمكنه إخفاؤه
(١) ضبط بالبناء للفاعل، أى اعتمد ذلك الله تعالى، وقد اعتمدت فى هذا الضبط على ما فى المخصص ص ٤ ج ١. (نجار).
(٢) البيت من الكامل، وهو للمخزومى فى المخصص (١/ ٤).
(٣) البيت من البسيط، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (صور)، (شرى)، (آ)، (وا)، وتاج العروس (صور)، (نظر)، (شرى)، والمخصص (١٢/ ١٠٣).
(٤) البجح: الفرح، وتبجح بالشئ: فخر به، وفلان يتبجح علينا ويتمجح إذا كان يهذى به إعجابا. اللسان (بجح).
(٥) أى أرّق نسيبا وأغزل.