الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب القول على أصل اللغة إلهام هى أم اصطلاح؟

صفحة 97 - الجزء 1

  فكأنهم جاءوا إلى واحد من بنى آدم، فأومئوا إليه، وقالوا: إنسان إنسان إنسان فأىّ وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك، فقالوا: يد، عين، رأس، قدم، أو نحو ذلك. فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيّها، وهلم جرّا فيما سوى هذا من الأسماء، والأفعال، والحروف. ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها، فتقول: الذى اسمه إنسان فليجعل مكانه مرد⁣(⁣١)، والذى اسمه رأس فليجعل مكانه سر؛ وعلى هذا بقيّة الكلام. وكذلك لو بدأت اللغة الفارسية، فوقعت المواضعة عليها، لجاز أن تنقل ويولّد منها لغات كثيرة: من الرومية، والزنجية، وغيرهما. وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراعات الصّنّاع لآلات صنائعهم من الأسماء: كالنجّار، والصائغ والحائك، والبناء، وكذلك الملاح.

  قالوا: ولكن لا بدّ لأوّلها من أن يكون متواضعا بالمشاهدة والإيماء. قالوا: والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدا من عباده على شيء؛ إذ قد ثبت أن المواضعة لا بدّ معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه، والمشار نحوه، والقديم سبحانه لا جارحة له، فيصحّ الإيماء والإشارة بها منه؛ فبطل عندهم أن تصح المواضعة على اللغة منه، تقدّست أسماؤه؛ قالوا: ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التى قد وقع التواضع بين عباده عليها، بأن يقول: الذى كنتم تعبّرون عنه بكذا عبّروا عنه بكذا، والذى (كنتم تسمّونه) كذا ينبغى أن تسمّوه كذا؛ وجواز هذا منه - سبحانه - كجوازه من عباده. ومن هذا الذى فى الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن من مخالفة الأشكال، فى حروف المعجم؛ كالصورة التى توضع للمعمّيات⁣(⁣٢)، والتراجم⁣(⁣٣)؛ وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلام ذوى اللغات؛ كما


(١) مرد: هو الإنسان أو الرجل فى الفارسية، وسر: الرأس فى الفارسية كذلك.

(٢) يريد بالمعميات ما عمى وألغز فى الرسم والكتابة. وذلك ما يكتب بصورة مصطلح عليها غير الاصطلاح المألوف. ومن أمثلة ذلك أن يكتب الكاف بدل الميم، والطاء بدل الحاء، والراء بدل الدال، فيكتب محمد: كطكر. وهو ما يعرف فى اصطلاح العصر بالشفرة.

(٣) والتراجم جمع الترجمة وهو المعمى نفسه، ويقال له المترجم؛ كأنه سمى بذلك لما أنه يحتاج إلى الترجمة والكشف عنه. وقد كان المتقدمون يعرفون هذا، وعقد له فى صبح الأعشى بابا طويلا - ص ٢٣١ ج ٩ -، وذكر أن لابن الدريهم كتابا فيه. وقد نقل عنه قدرا صالحا فى هذا العلم. وانظر فى فن المعمى بوجه عام الخزانة ١١٣/ ٣. =