الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية

صفحة 451 - الجزء 2

باب فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية

  اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية، ولا وراءه من نهاية. وذلك أن أكثر من ضلّ من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه (واستخفّ حلمه) ضعفه فى هذه اللغة الكريمة الشريفة، التى خوطب الكافّة بها، وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأحنائها، وأصل اعتقاد التشبيه لله تعالى بخلقه منها، وجاز عليهم بها وعنها. وذلك أنهم لمّا سمعوا قول الله - سبحانه، وعلا عما يقول الجاهلون علوّا كبيرا - {يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ}⁣[الزمر: ٣٩] وقوله تعالى {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}⁣[البقرة: ١١٥] وقوله: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ}⁣[ص: ٧٥] وقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا}⁣[يس: ٧١] وقوله: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ}⁣[الرحمن: ٢٧] وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي}⁣[طه: ٣٩] وقوله: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}⁣[الزمر: ٦٧] ونحو ذلك من الآيات الجارية هذا المجرى، وقوله فى الحديث: «خلق الله آدم على صورته»⁣(⁣١)، حتى ذهب بعض هؤلاء الجهّال فى قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ}⁣[القلم: ٤٢] أنها ساق ربهم - ونعوذ بالله من ضعفة النظر، وفساد المعتبر - ولم يشكّوا أن هذه أعضاء له، وإذا كانت أعضاء كان هو لا محالة جسما معضّى⁣(⁣٢)؛ على ما يشاهدون من خلقه، عزّ وجهه، وعلا قدره، وانحطّت سوامى (الأقدار و) الأفكار دونه. ولو كان لهم أنس بهذه اللغة الشريفة أو تصرّف فيها، أو مزاولة لها، لحمتهم السعادة بها، ما أصارتهم الشقوة إليه، بالبعد عنها.

  وسنقول فى هذا ونحوه ما يجب فى مثله. ولذلك ما قال رسول الله ÷ لرجل لحن: «أرشدوا أخاكم فإنه قد ضلّ»، فسمّى اللحن ضلالا؛ وقال #: «رحم الله امرأ أصلح من لسانه»⁣(⁣٣)، وذلك لما (علمه ÷ مما يعقب) الجهل لذلك


(١) أخرجه البخارى فى «أحاديث الأنبياء» (ح ٣٣٢٦)، ومسلم فى «الاستئذان» (ح ٢٨٤١).

(٢) يقال: عضّيت الشاة والجزور تعضية إذا جعلتها أعضاء وقسمتها.

(٣) ذكره العجلونى فى «كشف الخفاء» (١٣٦٨)، وقال: «رواه ابن عدى والخطيب عن عمر، وابن عساكر عن أنس، ... وقال ابن الغرس: قال شيخنا: حديث ضعيف».