باب فى تجاذب المعانى والإعراب
  لسنا كمن حلّت إياد دارها ... تكريت ترقب حبّها أن يحصدا(١)
  فـ (إياد) بدل من (من)، وإذا كان كذلك لم يمكنك أن تنصب (دارها) ب (حلّت) هذه الظاهرة؛ لما فيه من الفصل، فحينئذ ما تضمر له فعلا يتناوله، فكأنه قال فيما بعد: حلّت دارها. وإذا جازت دلالة المصدر على فعله، والفعل على مصدره، كانت دلالة الفعل على الفعل الذى هو مثله، أدنى إلى الجواز، وأقرب مأخذا فى الاستعمال. ومثله قول الكميت فى ناقته:
  كذلك تيك وكالناظرات ... صواحبها ما يرى المسحل(٢)
  أى وكالناظرات ما يرى المسحل صواحبها. فإن حملته على هذا كان فيه الفصل المكروه. فإذا كان المعنى عليه، ومنع طريق الإعراب منه أضمر له ما يتناوله، ودلّ (الناظرات) على ذلك المضمر. فكأنه قال فيما بعد: نظرن ما يرى المسحل؛ ألا تراك لو قلت: كالضارب زيد جعفرا وأنت تريد: كالضارب جعفرا زيد لم يجز؛ كما أنك لو قلت: إنك على صومك لقادر شهر رمضان، وأنت تريد: إنك على صومك شهر رمضان لقادر، لم يجز شيء من ذلك للفصل.
  وما أكثر استعمال الناس لهذا الموضع فى محاوراتهم وتصرّف الأنحاء (فى كلامهم)! وأحد من اجتاز به البحترىّ فى قوله:
  لا هناك الشّغل الجديد بحزوى ... عن رسوم برامتين قفار(٣)
  فـ (عن) فى المعنى متعلّقة (بالشغل) أى لا هناك الشغل عن هذه الأماكن؛ إلا أن الإعراب مانع منه، وإن كان المعنى متقاضيا له. وذلك أن قوله: (الجديد) صفة للشغل، والصفة إذا جرت على الموصوف آذنت بتمامه، وانقضاء أجزائه. فإن ذهبت تعلّق (عن) بنفس (الشغل) على ظاهر المعنى، كان فيه الفصل بين الموصول وصلته؛ وهذا فاسد؛ ألا تراك لو قلت: عجبت من ضربك الشديد عمرا لم يجز؛
(١) البيت من الكامل، وهو للأعشى فى ديوانه ص ٢٨١، ولسان العرب (كرت)، (منن)، ومغنى اللبيب ٢/ ٥٤١.
(٢) المسحل: الحمار الوحشى.
(٣) من قصيدته فى مدح أبى جعفر بن حميد. وقبله:
أبكاء فى الدار بعد الديار ... وسلوّا بزينب عن نوار (نجار).