باب فى التفسير على المعنى دون اللفظ
باب فى التفسير على المعنى دون اللفظ
  اعلم أن هذا موضع قد أتعب كثيرا من الناس واستهواهم، ودعاهم من سوء الرأى وفساد الاعتقاد إلى ما مذلوا به وتتايعوا فيه؛ حتى إن أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة، والأقوال المستشنعة، إنما دعا إليها القائلين بها تعلّقهم بظواهر هذه الأماكن، دون أن يبحثوا عن سرّ معانيها، ومعاقد أغراضها.
  فمن ذلك قول سيبويه فى بعض ألفاظه: حتّى الناصبة للفعل، يعنى فى نحو قولنا: اتّق الله حتى يدخلك الجنّة. فإذا سمع هذا من يضعف نظره اعتدها فى جملة الحروف الناصبة للفعل، وإنما النصب بعدها بأن مضمرة. وإنما جاز أن يتسمّح بذلك من حيث كان الفعل بعدها منصوبا بحرف لا يذكر معها؛ فصارت فى اللفظ كالخلف له، والعوض منه، وإنما هى فى الحقيقة جارّة لا ناصبة.
  ومنه قوله أيضا فى قول الشاعر:
  أنا اقتسمنا خطّتينا بيننا ... فحملت برّة واحتملت فجار(١)
  إن فجار معدولة ع الفجرة. وإنما غرضه أنها معدولة عن فجرة (معرفة علما) على ذا يدلّ هذا الموضع من الكتاب. ويقوّيه ورود برّة معه فى البيت، وهى - كما ترى - علم. لكنه فسّره على المعنى دون اللفظ. وسوّغه ذلك أنه لمّا أراد تعريف الكلمة المعدول عنها مثّل ذلك (بما تعرّف) باللام؛ لأنه لفظ معتاد، وترك لفظ فجرة؛ لأنه لا يعتاد ذلك علما، وإنما يعتاد نكرة (وجنسا) نحو فجرت فجرة كقولك: تجرت تجرة؛ ولو عدلت برّة هذه على هذا الحدّ لوجب أن يقال فيها:
(١) البيت من الكامل، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ٥٥، وإصلاح المنطق ص ٣٣٦، وخزانة الأدب ٦/ ٣٢٧، ٣٣٠، ٣٣٣، والدرر ١/ ٩٧، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٢١٦، وشرح التصريح ١/ ١٢٥، وشرح المفصل ٤/ ٥٣، والكتاب ٣/ ٢٧٤، ولسان العرب (برر)، (فجر)، (حمل)، والمقاصد النحوية ١/ ٤٠٥، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١/ ٣٤٩، وجمهرة اللغة ص ٤٦٣، وخزانة الأدب ٦/ ٢٨٧، وشرح الأشمونى ١/ ٦٢، وشرح عمدة الحافظ ص ١٤١، وشرح المفصل ١/ ٣٨، ولسان العرب (أنن)، ومجالس ثعلب ٢/ ٤٦٤، وهمع الهوامع ١/ ٢٩، وتاج العروس (أنن).