الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية؟

صفحة 103 - الجزء 1

  سؤال [قوىّ]: فإن قلت: فقد نجد فى اللغة أشياء كثيرة غير محصاة ولا محصّلة، لا نعرف لها سببا، ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهبا. فمن ذلك إهمال ما أهمل، وليس فى القياس ما يدعو إلى إهماله؛ وهذا أوسع من أن يحوج إلى ذكر طرف منه؛ ومنه الاقتصار فى بعض الأصول على بعض المثل⁣(⁣١)، ولا نعلم قياسا يدعو إلى تركه؛ نحو امتناعهم أن يأتوا فى الرباعى بمثال فعلل أو فعلل، أو فعلّ أو فعلّ، أو فعلّ، ونحو ذلك. وكذلك اقتصارهم فى الخماسىّ على الأمثلة الأربعة دون غيرها مما تجوّزه القسمة. ومنه أن عدلوا فعلا عن فاعل، فى أحرف محفوظة. وهى ثعل، وزحل، وغدر، وعمر، وزفر، وجشم، وقثم، وما يقلّ تعداده. ولم يعدلوا فى نحو مالك، وحاتم، وخالد، وغير ذلك، فيقولوا: ملك ولا حتم، ولا خلد. ولسنا نعرف سببا أوجب هذا العدل فى هذه الأسماء التى أريناكها، دون غيرها؛ فإن كنت تعرفه فهاته.

  فإن قلت: إن العدل ضرب من التصرف، وفيه إخراج للأصل عن بابه إلى الفرع؛ وما كانت هذه حاله أقنع منه البعض ولم يجب أن يشيع فى الكل.

  قيل: فهبنا سلّمنا ذلك لك تسليم نظر، فمن لك بالإجابة عن قولنا: فهلا جاء هذا العدل فى حاتم، ومالك، وخالد، وصالح، ونحوها؛ دون ثاعل، وزاحل، وغادر، وعامر، وزافر، وجاشم، وقاثم؟ ألك هاهنا نفق فتسلكه، أو مرتفق⁣(⁣٢) فتتورّكه؟ وهل غير أن تخلد إلى حيرة الإجبال⁣(⁣٣)، وتخمد نار الفكر حالا على حال؟ ولهذا ألف نظير، بل ألوف كثيرة ندع الإطالة بأيسر اليسير منها.

  وبعد فقد صحّ ووضح أن الشريعة إنما جاءت من عند الله تعالى؛ ومعلوم أنه سبحانه لا يفعل شيئا إلا ووجه المصلحة والحكمة قائم فيه، وإن خفيت عنا أغراضه ومعانيه، وليست كذلك حال هذه اللغة؛ ألا ترى إلى قوّة تنازع أهل


(١) يقصد بالمثل هنا (الصيغ) وقد كرر هذا المصطلح كثيرا مرادا به الصيغ وسيأتى بهذا المعنى أيضا فى الجزء الثانى فى باب (إمساس الألفاظ أشباه المعانى).

(٢) المرتفق: المتكأ. فتتورّكه: تعتمد عليه، والأصل فى هذا أن يقال: تورك عليه؛ وضع وركه عليه.

(٣) الإجبال: الانقطاع، من قولهم أجبل الحافر إذا أفضى إلى الجبل أو الصخر الذى لا يحيك فيه المعول. اللسان (جبل).