الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية؟

صفحة 104 - الجزء 1

  الشريعة فيها، وكثرة الخلاف فى مباديها، ولا تقطع فيها بيقين، ولا من الواضع لها، ولا كيف وجه الحكمة فى كثير مما أريناه آنفا من حالها، وما هذه سبيله لا يبلغ شأو ما عرف الآمر به - سبحانه وجلّ جلاله - وشهدت النفوس، واطّردت المقاييس على أنه أحكم الحاكمين سبحانه. انقضى السؤال.

  قيل: لعمرى إن هذه أسئلة، تلزم من نصب نفسه لما نصبنا أنفسنا من هذا الموقف له. وهاهنا أيضا من السؤالات أضعاف هذه الموردة، وأكثر من أضعاف ذلك، ومن أضعاف أضعافه؛ غير أنه لا ينبغى أن يعطى فيها باليد. بل يجب أن ينعم الفكر فيها، ويكاس فى الإجابة عنها. فأوّل ذلك أنا لسنا ندّعى أن علل أهل العربية فى سمت العلل الكلامية البتة، بل ندّعى أنها أقرب إليها من العلل الفقهيّة، وإذا حكّمنا بديهة العقل، وترافعنا إلى الطبيعة والحسّ، فقد وفّينا الصنعة حقّها، وربأنا⁣(⁣١) بها أفرع مشارفها. وقد قال سيبويه: وليس شيء مما يضطرّون إليه، إلا وهم يحاولون به وجها. وهذا أصل يدعو إلى البحث عن علل ما استكرهوا عليه؛ نعم ويأخذ بيدك إلى ما وراء ذلك، فتستضيء به وتستمدّ التنبّه على الأسباب المطلوبات منه. ونحن نجيب عما مضى، ونورد معه، وفى أثنائه ما يستعان به، ويفزع فيما يدخل من الشبه إليه، بمشيئة الله وتوفيقه.

  أمّا إهمال ما أهمل، مما تحتمله قسمة التركيب فى بعض الأصول المتصوّرة، أو المستعملة، فأكثره متروك للاستثقال، وبقيته ملحقة به، ومقفّاة على إثره. فمن ذلك ما رفض استعماله لتقارب حروفه؛ نحو سص، وطس، وظث، وثظ، وضش، وشض؛ وهذا حديث واضح لنفور الحس عنه، والمشقة على النفس لتكلفه. وكذلك نحو قج، وجق، وكق، وقك، وكج، وجك. وكذلك حروف الحلق: هى من الائتلاف أبعد؛ لتقارب مخارجها عن معظم الحروف، أعنى حروف الفم. فإن جمع بين اثنين منها قدّم الأقوى على الأضعف؛ نحو أهل، وأحد، وأخ، وعهد، وعهر؛ وكذلك متى تقارب الحرفان لم يجمع بينهما، إلا بتقديم الأقوى منهما؛ نحو أرل، ووتد، ووطد. يدل على أن الراء أقوى من اللام أن القطع عليها أقوى من القطع على اللام. وكأن ضعف اللام إنما أتاها لما


(١) المشارف: الأعالى، وأفرع: أعلى، وربأ الجبل: علاه.