الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية؟

صفحة 105 - الجزء 1

  تشربه من الغنّة عند الوقوف عليها، ولذلك لا تكاد تعتاص⁣(⁣١) اللام، وقد ترى إلى كثرة اللثغة فى الراء فى الكلام، وكذلك الطاء، والتاء: هما أقوى من الدال؛ وذاك لأن جرس الصوت بالتاء، والطاء، عند الوقوف عليهما أقوى منه وأظهر عند الوقوف على الدال. وأنا أرى أنهم إنما يقدّمون الأقوى من المتقاربين، من قبل أن جمع المتقاربين يثقل على النفس، فلما اعتزموا النطق بهما قدّموا أقواهما، لأمرين: أحدهما أن رتبة الأقوى أبدا أسبق وأعلى؛ والآخر أنهم إنما يقدّمون الأثقل ويؤخّرون الأخفّ من قبل أن المتكلم فى أوّل نطقه أقوى نفسا، وأظهر نشاطا، فقدّم أثقل الحرفين، وهو على أجمل الحالين، كما رفعوا المبتدأ لتقدّمه، فأعربوه بأثقل الحركات وهى الضمة، وكما رفعوا الفاعل لتقدمه، ونصبوا المفعول لتأخّره، فإنّ هذا أحد ما يحتجّ به فى المبتدأ، والفاعل. فهذا واضح كما تراه.

  وأما ما رفض أن يستعمل وليس فيه إلا ما استعمل من أصله فعنه السؤال، وبه الاشتغال. وإن أنصفت نفسك فيما يرد عليك فيه حليت به وأنقت⁣(⁣٢) له، وإن تحاميت الإنصاف، وسلكت سبيل الانحراف، فذاك إليك، ولكن جنايته عليك.

  «جواب قوى»: اعلم أن الجواب عن هذا الباب تابع لما قبله، وكالمحمول على حكمه. وذلك أن الأصول ثلاثة: ثلاثى، ورباعى، وخماسى. فأكثرها استعمالا، وأعدلها تركيبا، الثلاثى. وذلك لأنه حرف يبتدأ به، وحرف يحشى به، وحرف يوقف عليه. وليس اعتدال الثلاثى لقلة حروفه حسب؛ لو كان كذلك لكان الثنائى أكثر منه؛ لأنه أقل حروفا، وليس الأمر كذلك؛ ألا ترى أن جميع ما جاء من ذوات الحرفين جزء لا قدر له فيما جاء من ذوات الثلاثة؛ نحو من وفى، وعن، وهل، وقد، وبل، وكم، ومن، وإذ، وصه، ومه. ولو شئت لأثبتّ جميع ذلك فى هذه الورقة. والثلاثى عاريا من الزيادة، وملتبسا بها، مما يبعد تداركه، وتتعب الإحاطة به. فإذا ثبت ذلك عرفت منه، وبه أنّ ذوات الثلاثة لم تتمكن فى الاستعمال لقلة عددها حسب؛ ألا ترى إلى قلة الثنائى؛ وأقلّ منه ما جاء على


(١) فى بعض النسخ (تعتاض) بالضاد المعجمة، وهو تحريف. وأصل الكلمة من العوض وهو ضد الإمكان واليسر والكلمة العوصاء: الغريبة، وقد اعتاص وأعوص فى المنطق غمّضه. اللسان (عوص).

(٢) أنق بالشئ، وبه: أعجب به وسرّ.