الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية؟

صفحة 132 - الجزء 1

  وعلّة جواز هذا البيت ونحوه، مما حذف فيه ما يقوى بالحركة، هى أن هذه الحركة إنما هى لالتقاء الساكنين، وأحداث التقائهما ملغاة غير معتدّة، فكأنّ النون ساكنة، وإن كانت لو أقرّت لحرّكت، فإن لم تقل بهذا لزمك أن تمتنع من إجماع العرب الحجازيين على قولهم: اردد الباب، وأصبب الماء، واسلل السيف. وأن تحتج فى دفع ذلك بأن تقول: لا أجمع بين مثلين متحرّكين. وهذا واضح.

  ومن طريف حديث اجتماع السواكن شيء وإن كان فى لغة العجم، فإن طريق الحسّ موضع تتلاقى عليه طباع البشر، ويتحاكم إليه الأسود والأحمر، وذلك قولهم: «آرد» للدقيق و «ماست» للّبن؛ فيجمعون بين ثلاثة سواكن. إلا أننى لم أر ذلك إلا فيما كان ساكنه الأول ألفا، وذلك أن الألف لما قاربت بضعفها وخفائها الحركة صارت «ماست» كأنها مست.

  فإن قلت: فأجز على هذا الجمع بين الألفين المدّتين، وأعتقد أن الأولى منهما كالفتحة قبل الثانية.

  قيل: هذا فاسد؛ وذلك أن الألف قبل السين فى «ماست» إذا أنت استوفيتها أدّتك إلى شيء آخر غيرها مخالف لها، وتلك حال الحركة قبل الحرف: أن يكون بينهما فرق ما، ولو تجشّمت نحو ذلك فى جمعك فى اللفظ بين ألفين مدّتين، نحو كساا، وحمراا، لكان مضافا إلى اجتماع ساكنين أنك خرجت من الألف إلى ألف مثلها، وعلى سمتها، والحركة لا بدّ لها أن تكون مخالفة للحرف بعدها؛ هذا مع انتقاض القضية فى سكون ما قبل الألف الثانية.

  ورأيت مع هذا أبا على | كغير المستوحش من الابتداء بالساكن فى كلام العجم. ولعمرى إنه لم يصرّح بإجازته، لكنه لم يتشدّد فيه تشدّده فى إفساد إجازة ابتداء العرب بالساكن. قال: وذلك أن العرب قد امتنعت من الابتداء بما يقارب حال الساكن، وإن كان فى الحقيقة متحركا، يعنى همزة بين بين. قال: فإذا كان بعض المتحرك لمضارعته الساكن لا يمكن الابتداء به، فما الظن بالساكن نفسه! قال: وإنما خفى حال هذا فى اللغة العجمية لما فيها من الزمزمة⁣(⁣١)؛ يريد أنها لمّا


(١) الزمزمة: تراطن المجوس عند أكلهم وهم صموت، لا يستعملون اللسان ولا الشفة فى كلامهم، لكنه صوت تديره فى خياشيمها وحلوقها فيفهم بعضهم عن بعض. وانظر اللسان (زمم).