الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية؟

صفحة 134 - الجزء 1

  غنّة كالنون، وهى أيضا تقرب من الياء حتى يجعلها بعضهم فى اللفظ ياء، فحملت اللام فى هذا على النون، كما حملت أيضا عليها فى لعلّى، ألا تراهم كيف كرهوا النون من لعلّنى مع اللام، كما كرهوا النون فى إننى، وعلى ذلك قالوا: هذا بلو سفر، وبلى سفر⁣(⁣١)، فأبدلوا الواو ياء لضعف حجز اللام كما أبدلوها «فى قنية» ياء، لضعف حجز النون، وكأن «قنية» - وهى عندنا من «قنوت» -، و «بليا» أشبه من عذى⁣(⁣٢) وصبيان، لأنه لا غنّة فى الذال والباء. ومثل «بلى» قولهم: فلان من علية الناس، وناقة عليان⁣(⁣٣). فأمّا إبدال يونس هذه النون فى الوقف ألفا وجمعه بين ألفين فى اضرباا، واضربناا، فهو الضعيف المستكره الذى أباه أبو إسحاق وقال فيه ما قال.

  ومن الأمر الطبيعى الذى لا بدّ منه، ولا وعى عنه، أن يلتقى الحرفان الصحيحان فيسكن الأوّل منهما فى الإدراج، فلا يكون حينئذ بدّ من الإدغام، متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو قولك: شدّ، وصبّ، وحلّ؛ فالإدغام واجب لا محالة، ولا يوجدك اللفظ به بدا منه. والمنفصلان نحو قولك: خذ ذاك، ودع عامرا. فإن قلت: فقد أقدر أن أقول: شدد، وحلل، فلا أدغم، قيل: متى تجشّمت ذلك وقفت على الحرف الأوّل وقفة ما، وكلامنا إنما هو على الوصل. فأما قراءة عاصم: {وَقِيلَ مَنْ راقٍ}⁣(⁣٤) [القيامة: ٢٧] ببيان النون من «من»، فمعيب فى الإعراب، معيف فى الأسماع، وذلك أن النون الساكنة لا توقّف فى وجوب ادّغامها فى الراء، نحو: من رأيت، ومن رآك؛ فإن كان ارتكب ذلك ووقف على النون صحيحة غير مدغمة، لينبّه به على انفصال المبتدأ من خبره فغير مرضىّ أيضا؛ ألا ترى إلى قول عدىّ:


(١) يقال: ناقة بلو سفر وبلى سفر: أبلاها السفر.

(٢) العذى: قلبت الواو ياء لضعف الساكن كما قالوا صبية، وقد قيل إنه ياء والعذى، بتسكين الذال: الزرع الذى لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده عن المياه. اللسان (عذا).

(٣) يقال: ناقة عليان أى عالية مشرفة.

(٤) وأظهر عاصم وتبعه حفص النون فى قوله تعالى: {مَنْ راقٍ} واللام فى قوله: {بَلْ رانَ} لئلا يشبه مرّاق وهو بائع المرقة، وبرّان مثنى بر. وانظر القرطبى ص ٦٩٠٣ ط الريان، والمحيط فى تفسير سورة القيامة.