الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى تخصيص العلل

صفحة 183 - الجزء 1

  من الياء، وكلّما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى صاحبه، وانجذابه نحوه، وإذا تباعدا كانا بالصحّة والظهور قمنا. وهذا - لعمرى - جواب جرى هناك على مألوف العرف فى تخصيص العلّة. فأمّا هذا الموضع فمظنّة من استمرار المحجّة واحتماء العلّة. وذلك أن يقال: إنّ استاف هنا لا يراد به تسايفوا أى تضاربوا بالسيوف، فتلزم صحّته كصحّة عين تسايفوا؛ كما لزمت صحّة اجتوروا لمّا كان فى معنى ما لا بدّ من صحّة عينه، وهو تجاوروا؛ بل تكون استافوا هنا: تناولوا سيوفهم وجرّدوها. ثم يعلم من بعد أنهم تضاربوا؛ مما دلّ عليه قولهم: استافوا، فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب عن المسبّب؛ كقوله:

  ذر الآكلين الماء ظلما فما أرى ... ينالون خيرا بعد أكلهم الماء⁣(⁣١)

  يريد قوما كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه، فاكتفى بذكر الماء الذى هو سبب المأكول من ذكر المأكول.

  فأمّا تفسير أهل اللغة أنّ استاف القوم فى معنى تسايفوا فتفسير على المعنى؛ كعادتهم فى أمثال ذلك؛ ألا تراهم قالوا فى قول الله ø {مِنْ ماءٍ دافِقٍ}⁣[الطارق: ٦] إنه بمعنى مدفوق، فهذا - لعمرى - معناه، غير أن طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق كما حكاه الأصمعىّ عنهم من قولهم: ناقة ضارب إذا ضربت⁣(⁣٢)، وتفسيره أنها ذات ضرب أى ضربت. وكذلك قوله تعالى: {لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ}⁣[هود: ٤٣] أى لا ذا عصمة، وذو العصمة يكون مفعولا كما يكون فاعلا، فمن هنا قيل: إن معناه: لا معصوم. وكذلك قوله:

  لقد عيّل الأيتام طعنة ناشره ... أناشر لا زالت يمينك آشره⁣(⁣٣)


(١) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (أكل)، وتاج العروس (أكل).

(٢) أى ضربها الفحل، وضرب الجمل الناقة يضربها إذا نزا عليها. اللسان (ضرب).

(٣) البيت من الطويل، وهو لنائحة همّام بن مرّة فى التنبيه والإيضاح ٢/ ٧٨، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٩/ ٢٢١، ١١/ ٤١٠، وجمهرة اللغة ص ٧٣٤، ومجمل اللغة ١/ ١٩٣، وتاج العروس (أشر)، (نشر)، ولسان العرب (أشر)، (نشر)، (وقص)، (ومق)، (عبل)، (ضمن). وأراد: لا زالت يمينك مأشورة أو ذات أشر. يقال: أشرت الخشبة أشرا ووشرتها وشرا إذا شققتها مثل نشرتها نشرا. وذلك أن الشاعر إنما دعا على ناشرة لا له؛ قال ابن برى: هذا البيت لنائحة همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وكان قتله ناشرة، وهو الذى ربّاه، قتله غدرا؛ =