الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة؟

صفحة 216 - الجزء 1

باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة؟

  اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجّة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص. والمقيس على المنصوص، فأمّا إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجّة عليه. وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره فى قرآن ولا سنّة أنهم لا يجتمعون على الخطأ؛ كما جاء النصّ عن رسول الله ÷ من قوله: «أمّتى لا تجتمع على ضلالة»⁣(⁣١) وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة. فكلّ من فرق له عن علّة صحيحة، وطريق نهجة كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره.

  إلا أننا - مع هذا الذى رأيناه وسوّغنا مرتكبه - لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التى قد طال بحثها، وتقدّم نظرها، وتتالت أواخر على أوائل، وأعجازا على كلاكل، والقوم الذين لا نشكّ فى أن الله - سبحانه وتقدّست أسماؤه - قد هداهم لهذا العلم الكريم، وأراهم وجه الحكمة فى الترجيب له والتعظيم، وجعله ببركاتهم، وعلى أيدى طاعاتهم، خادما للكتاب المنزل، وكلام نبيه المرسل، وعونا على فهمهما؛ ومعرفة ما أمر به، أو نهى عنه الثّقلان منهما، إلا بعد أن يناهضه إتقانا، ويثابته عرفانا، ولا يخلد إلى سانح خاطره، ولا إلى نزوة من نزوات تفكّره. فإذا هو حذا على هذا المثال، وباشر بإنعام تصفّحه أحناء الحال، أمضى الرأى فيما يريه الله منه، غير معازّ به، ولا غاضّ من السّلف - رحمهم الله - فى شيء منه. فإنه إذا فعل ذلك سدّد رأيه. وشيّع خاطره، وكان بالصواب مئنّة، ومن التوفيق مظنّة، وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: ما على الناس شيء أضرّ من قولهم: ما ترك الأوّل للآخر شيئا. وقال أبو عثمان المازنىّ: «وإذا قال العالم قولا متقدّما فللمتعلّم الاقتداء به (والانتصار له)، (والاحتجاج) لخلافه، إن وجد إلى ذلك سبيلا» وقال الطائى الكبير:


(١) ذكره الحافظ فى «التلخيص»، (٣/ ١٤١)، وقال: «هذا حديث مشهور له طرق كثيرة، لا يخلو واحد منها من مقال، منها لأبى داود عن أبى مالك الأشعرى مرفوعا: ... وفى إسناده انقطاع، وللترمذى والحاكم عن ابن عمر مرفوعا ... وفيه سليمان بن شعبان المدنى، وهو ضعيف - وأخرج الحاكم له شواهد ..».