الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ

صفحة 239 - الجزء 1

  فقد ترى إلى علوّ هذا اللفظ ومائه، وصقاله وتلامح أنحائه، ومعناه مع هذا ما تحسّه وتراه: إنما هو: لمّا فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين، وتحدّثنا على ظهور الإبل. ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها، مشروفة المعانى خفيضتها.

  قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلّق به من لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ما أراه القوم منه، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وخفاء غرض الناطق. وذلك أن فى قوله «كل حاجة» [ما] يفيد منه أهل النسيب والرّقّة، وذوو الأهواء والمقة⁣(⁣١) ما لا يفيده غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم؛ ألا ترى أن من حوائج (منى) أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه، والمعتاد فيه سواها؛ لأن منها التلاقى، ومنها التشاكى، ومنها التخلّى، إلى غير ذلك ممّا هو تال له، ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذى أومأ إليه، وعقد غرضه عليه، بقوله فى آخر البيت:

  * ومسّح بالأركان من هو ماسح⁣(⁣٢) *

  أى إنما كانت حوائجنا التى قضيناها، وآرابنا التى أنضيناها، من هذا النحو الذى هو مسح الأركان وما هو لاحق به، وجار فى القربة من الله مجراه؛ أى لم يتعدّ هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أوّل البيت من التعريض الجارى مجرى التصريح.

  وأمّا البيت الثانى فإنّ فيه:

  * أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا⁣(⁣٣) *

  وفى هذا ما أذكره؛ لتراه فتعجب ممّن عجب منه ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال: أخذنا فى أحاديثنا، ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب، وتعنو له ميعة⁣(⁣٤) الماضى الصليب. وذلك أنهم قد شاع عنهم واتّسع فى محاوراتهم علوّ قدر الحديث بين الأليفين، والفكاهة بجمع شمل المتواصلين؛ ألا ترى إلى قول الهذلىّ:


(١) المقة: المحبة.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) ميعة الشباب والسكر والنهار: أوله وأنشطه. اللسان (ميع).