باب فى أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض
  من لغته، والله لا أقولها أبدا.
  والمروىّ عنهم فى شغفهم بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها أكثر من أن يورد أو جزء من أجزاء كثيرة منه.
  فإن قلت: فإن العجم أيضا بلغتهم مشغوفون، ولها مؤثرون، ولأن يدخلها شيء من العربىّ كارهون؛ ألا ترى أنهم إذا أورد الشاعر منهم شعرا فيه ألفاظ من العربىّ عيب به، وطعن لأجل ذلك عليه. فقد تساوت حال اللغتين فى ذلك. فأيّة فضيلة للعربيّة على العجميّة؟
  قيل: لو أحسّت العجم بلطف صناعة العرب فى هذه اللغة، وما فيها من الغموض والرّقة والدقة لاعتذرت من اعترافها بلغتها، فضلا عن التقديم لها، والتنويه منها.
  فإن قيل: لا، بل لو عرفت العرب مذاهب العجم فى حسن لغتها، وسداد تصرّفها، وعذوبة طرائقها لم تبأ(١) بلغتها، ولا رفعت من رءوسها باستحسانها. وتقديمها.
  قيل: قد اعتبرنا ما تقوله، فوجدنا الأمر فيه بضدّه. وذلك أنا نسأل علماء العربية ممن أصله عجمىّ وقد تدرّب بلغته قبل استعرابه، عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك؛ لبعده فى نفسه، وتقدّم لطف العربيّة فى رأيه وحسّه. سألت غير مرّة أبا علىّ ¥ عن ذلك، فكان جوابه عنه نحوا مما حكيته.
  فإن قلت: ما تنكر أن يكون ذلك، لأنه كان عالما بالعربيّة، ولم يكن عالما باللغة العجميّة، ولعلّه لو كان عالما بها لأجاب بغير ما أجاب به. قيل: نحن قد قطعنا بيقين، وأنت إنما عارضت بشكّ، ولعلّ هذا ليس قطعا كقطعنا، ولا يقينا كيقيننا.
  وأيضا فإن العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم فى العربيّة تؤيّد معرفتهم بالعجميّة، وتؤنسهم بها، وتزيد فى تنبيههم على أحوالها؛ لاشتراك العلوم اللغويّة واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها. ولم نر أحدا
(١) بأى يبأى بأوا: فخر، والبأو: الكبر والفخر، والبأى لغة فى البأو. اللسان (بأى).