باب فى أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض
  من أشياخنا فيها - كأبى حاتم(١)، وبندار(٢)، وأبى علىّ، وفلان، وفلان - يسوّون بينهما ولا يقرّبون بين حاليهما. وكأنّ هذا موضع ليس للخلاف فيه مجال؛ لوضوحه عند الكافّة. وإنما أوردنا منه هذا القدر احتياطا به، واستظهارا على مورد له عسى أن يورده.
  فإن قلت: زعمت أن العرب تجتمع على لغتها فلا تختلف فيها، وقد نراها ظاهرة الخلاف؛ ألا ترى إلى الخلاف فى (ما) الحجازيّة، والتميميّة، وإلى الحكاية فى الاستفهام عن الأعلام فى الحجازيّة، وترك ذلك فى التميميّة، إلى غير ذلك، قيل: هذا القدر من الخلاف لقلته ونزارته، محتقر غير محتفل به، ولا معيج(٣) عليه، وإنما هو فى شيء من الفروع يسير. فأمّا الأصول وما عليه العامّة والجمهور، فلا خلاف فيه، ولا مذهب للطاعن به. وأيضا فإن أهل كلّ واحدة من اللغتين عدد كثير، وخلق (من الله) عظيم، وكلّ واحد منهم محافظ على لغته، لا يخالف شيئا منها ولا يوجد عنده تعاد فيها. فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون، ويقتاسون، ولا يفرّطون، ولا يخلّطون. ومع هذا فليس شيء مما يختلفون فيه - على قلّته وخفّته - إلا له من القياس وجه يؤخذ به. ولو كانت هذه اللغة حشوا مكيلا، وحثوا مهيلا، لكثر خلافها، وتعادت أوصافها: فجاء عنهم جرّ الفاعل، ورفع المضاف إليه والمفعول به، والجزم بحروف النصب، والنصب بحروف الجزم؛ بل جاء عنهم الكلام سدى غير محصّل، وغفلا من الإعراب، ولاستغنى بإرساله وإهماله عن إقامة إعرابه، والكلف الظاهرة بالمحاماة على طرد أحكامه.
  هذا كلّه وما أكنى عنه من مثله - تحاميا للإطالة به - إن كانت هذه اللغة شيئا خوطبوا به، وأخذوا باستعماله. وإن كانت شيئا اصطلحوا عليه، وترافدوا بخواطرهم وموادّ حكمهم على عمله وترتيبه، وقسمة أنحائه، وتقديمهم أصوله،
(١) هو سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم أبو حاتم السّجستانىّ البصرىّ، أستاذ المبرد. مات سنة ٢٥٥ هـ وانظر البغية. (١/ ٢٠٦).
(٢) هو بندار بن عبد الحميد أبو عمر الكرخى الأصبهانى المعروف بابن لرّة. البغية (١/ ٤٧٦).
(٣) العيج: شبه الاكتراث، يقال: ما عاج بقوله عيجا: لم يكترث له. اللسان (عيج).