باب فى أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض
  الموضع بهذه العلّة، ويحتجّ لتأنيث المذكّر بما ذكره، فلا (يهتاجواهم) لمثله، ولا يسلكوا فيه طريقته، فيقولوا: فعلوا كذا لكذا، وصنعوا كذا لكذا، وقد شرع لهم العربىّ ذلك، ووقفهم على سمته وأمّه.
  وحدّثنا أبو علىّ عن أبى بكر عن أبى العباس أنه قال: سمعت عمارة بن عقيل ابن بلال بن جرير يقرأ {وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ}[سورة يس: ٤٠] فقلت له ما تريد؟ قال: أردت: سابق النهار. فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن. ففى هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبطة منها: أحدها تصحيح قولنا: إن أصل كذا كذا، والآخر قولنا: إنها فعلت كذا لكذا؛ ألا تراه إنما طلب الخفّة، يدلّ عليه قوله: لكان أوزن: أى أثقل فى النفس وأقوى، من قولهم: هذا درهم وازن: أى ثقيل له وزن. والثالث أنها قد تنطق بالشئ غيره فى أنفسها أقوى منه؛ لإيثارها التخفيف.
  وقال سيبويه حدّثنا من نثق به أن بعض العرب قيل له أما بمكان كذا وكذا وجد(١)؟ فقال: بلى وجاذا، أى أعرف بها وجاذا، وقال أيضا: وسمعنا بعضهم يدعو على غنم رجل، فقال: اللهم ضبعا وذئبا، فقلنا: له ما أردت؟ فقال: أردت: اللهمّ اجمع فيها ضبعا وذئبا، كلّهم يفسّر ما ينوى.
  فهذا تصريح منهم بما ندّعيه عليهم، وننسبه إليهم.
  وسألت الشجرىّ يوما فقلت: يا أبا عبد الله، كيف تقول ضربت أخاك؟ فقال: كذاك. فقلت: أفتقول: ضربت أخوك؟ فقال: لا أقول: أخوك أبدا. قلت: فكيف تقول ضربنى أخوك؟ فقال: كذاك. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدا؟ فقال أيش ذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا فى معناه إلا كقولنا نحن: صار المفعول فاعلا، وإن لم يكن بهذا اللفظ البتّة فإنه هو لا محالة.
  ومن ذلك ما يروى عن النبى ÷ أن قوما من العرب أتوه، فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: نحن بنو غيّان، فقال: بل أنتم بنو رشدان(٢). فهل هذا إلا كقول
(١) الوجذ: النقرة فى الجبل تمسك الماء ويستنقع فيها، والجمع وجذان ووجاذ. اللسان (وجذ).
(٢) قال النبىّ ÷: رشدان - بالفتح - ليحاكى به غيّان، قال ابن سيده: وهذا واسع كثير