الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض

صفحة 262 - الجزء 1

  أفلا ترى إلى اعتباره بمشاهدة الوجوه، وجعلها دليلا على ما فى النفوس.

  وعلى ذلك قالوا: «رب إشارة أبلغ من عبارة» وحكاية الكتاب من هذا الحديث، وهى قوله: (ألا تا) و (بلى فا). وقال لى بعض مشايخنا |: أنا لا أحسن أن أكلّم إنسانا فى الظلمة.

  ولهذا الموضع نفسه ما توقّف أبو بكر عن كثير ممّا أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق، واحتجّ أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها، ولم ندر ما حديثها، ومثّل له بقولهم (رفع عقيرته) إذا رفع صوته. قال له أبو بكر: فلو ذهبنا نشتقّ لقولهم (ع ق ر) من معنى الصوت لبعد الأمر جدّا؛ وإنما هو أنّ رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته، فقال الناس: رفع عقيرته، أى رجله المعقورة. قال أبو بكر: فقال أبو إسحاق: لست أدفع هذا.

  ولذلك قال سيبويه فى نحو من هذا: أو لأن الأوّل وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر، يعنى ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل.

  فليت شعرى إذا شاهد أبو عمرو وابن أبى إسحاق، ويونس، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه، وأبو الحسن، وأبو زيد، وخلف الأحمر، والأصمعىّ، ومن فى الطبقة والوقت من علماء البلدين، وجوه العرب فيما تتعاطاه من كلامها، وتقصد له من أغراضها، ألا تستفيد بتلك المشاهدة وذلك الحضور ما لا تؤدّيه الحكايات، ولا تضبطه الروايات، فتضطرّ إلى قصود العرب، وغوامض ما فى أنفسها، حتى لو حلف منهم حالف على غرض دلّته عليه إشارة، لا عبارة، لكان عند نفسه وعند جميع من يحضر حاله صادقا فيه، غير متّهم الرأى والنحيزة والعقل.

  فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا، وكأنه حاضر معنا، مناج لنا.

  وأمّا ما روى لنا فكثير. منه ما حكى الأصمعىّ عن أبى عمرو قال: سمعت رجلا من اليمن يقول: فلان لغوب، جاءته كتابى فاحتقرها. فقلت له: أتقول جاءته كتابى! قال: نعم أليس بصحيفة. أفتراك تريد من أبى عمرو وطبقته وقد نظروا، وتدرّبوا، وقاسوا، وتصرّفوا أن يسمعوا أعرابيّا جافيا غفلا، يعلّل هذا