الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى أن المحذوف

صفحة 294 - الجزء 1

  حذفت لتقدّم ذكرها فى نحو قولك: بمن تمرر أمرر، وعلى من تنزل أنزل، ولم تقل: أمر ربه ولا أنزل عليه، لكن حذفت الحرفين لتقدّم ذكرهما. وإذا جاز للفرزدق أن يحذف حرف الجرّ لدلالة ما قبله عليه (مع مخالفته له فى الحكم) فى قوله:

  وإنّى من قوم بهم يتّقى العدا ... ورأب الثأى والجانب المتخوّف⁣(⁣١)

  أراد: وبهم رأب الثأى، فحذف الباء فى هذا الموضع لتقدّمها فى قوله: بهم يتقى العدا، وإن كانت حالاهما مختلفتين. ألا ترى أن الباء فى قوله (بهم يتقى العدا) منصوبة الموضع لتعلّقها بالفعل الظاهر الذى هو يتّقى، كقولك: بالسيف يضرب زيد، والباء فى قوله: (وبهم رأب الثأى) مرفوعة الموضع عند قوم، وعلى كلّ حال فهى متعلّقة بمحذوف ورافعه الرأب - ونظائر هذا كثيرة - كان حذف الباء من قوله (والأرحام) لمشابهتها الباء فى (به) موضعا وحكما أجدر، وقد أجازوا تبّا له وويل على تقدير وويل له، فحذفوها وإن كانت اللام فى (تبّا له) لا ضمير فيها وهى متعلّقة بنفس (تبّا) مثلها فى هلمّ لك وكانت اللام فى (ويل له) خبرا، ومعلّقة بمحذوف وفيها ضمير، فهذا عروض⁣(⁣٢) بيت الفرزدق.

  فإن قلت: فإذا كان المحذوف للدّلالة عليه عندك بمنزلة الظاهر فهل تجيز توكيد الهاء المحذوفة فى نحو قولك: الذى ضربت زيد، فتقول: الذى ضربت نفسه زيد؛ كما تقول: الذى ضربته نفسه زيد؟ قيل: هذا عندنا غير جائز؛ وليس ذلك لأن المحذوف هنا ليس بمنزلة المثبت، بل لأمر آخر، وهو أن الحذف هنا إنما الغرض به التخفيف لطول الاسم، فلو ذهبت تؤكّده لنقضت الغرض. وذلك أن لتوكيد والإسهاب ضدّ التخفيف والإيجاز؛ فلمّا كان الأمر كذلك تدافع الحكمان، فلم يجز أن يجتمعا؛ كما لا يجوز ادّغام الملحق؛ لما فيه من نقض الغرض. وكذلك


(١) البيت للفرزدق فى ديوانه ٢/ ٢٩، والأشباه والنظائر ٢/ ٣٢٦، وجمهرة أشعار العرب ص ٨٨٧، ولسان العرب (رأب)، وبلا نسبة فى الخصائص ١/ ٢٨٦. رأب الثأى: إصلاح الفساد. ورأب الصدع والإناء يرأبه رأبا ورأبة: أصلحه. وانظر اللسان (رأب).

(٢) يقال: هذه المسألة عروض هذه، أى نظيرها. اللسان (عرض).