الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى أن المحذوف

صفحة 295 - الجزء 1

  قولهم لمن سدّد سهما ثم أرسله نحو الغرض فسمعت صوتا فقلت: القرطاس والله أى أصاب القرطاس: لا يجوز توكيد الفعل الذى نصب (القرطاس). لو قلت: إصابة القرطاس، فجعلت (إصابة) مصدرا للفعل الناصب للقرطاس لم يجز؛ من قبل أن الفعل هنا قد حذفته العرب وجعلت الحال المشاهدة دالّة عليه، ونائبة عنه، فلو أكّدته لنقضت الغرض؛ لأن فى توكيده تثبيتا للفظه المختزل، ورجوعا عن المعتزم من حذفه واطّراحه والاكتفاء بغيره منه. وكذلك قولك للمهوى بالسيف فى يده: زيدا، أى اضرب زيدا لم يجز أن تؤكّد ذلك الفعل الناصب لزيد؛ ألا تراك لا تقول: ضربا زيدا وأنت تجعل (ضربا) توكيدا لا ضرب المقدّرة؛ من قبل أن تلك اللفظة قد أنيبت عنها الحال الدالّة عليها، وحذفت هى اختصارا، فلو أكّدتها لنقضت القضيّة التى كنت حكمت بها لها، لكن لك أن تقول: ضربا زيدا لا على أن تجعل ضربا توكيدا للفعل الناصب لزيد، بل على أن تبدله منه فتقيمه مقامه فتنصب به زيدا، فأمّا على التوكيد به لفعله وأن يكون زيد منصوبا بالفعل الذى هذا توكيد له فلا.

  فهذه الأشياء لو لا ما عرض من صناعة اللفظ - أعنى الاقتصار على شيء دون شيء - لكان توكيدها جائزا حسنا، لكن (عارض ما منع) فلذلك لم يجز؛ لا لأن المحذوف ليس فى تقدير الملفوظ به.

  ومما يؤكّد لك أن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوط به إنشادهم قول الشاعر:

  قاتلى القوم يا خزاع ولا ... يأخذكم من قتالهم فشل⁣(⁣١)

  فتمام الوزن أن يقال: فقاتلى القوم، فلو لا أنّ المحذوف إذا دلّ الدليل عليه بمنزلة المثبت، لكان هذا كسرا، لا زحافا. وهذا من أقوى وأعلى ما يحتجّ به لأن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به البتّة، فاعرفه، واشدد يدك به.

  وعلى الجملة فكلّ ما حذف تخفيفا فلا يجوز توكيده، لتدافع حاليه به؛ من حيث التوكيد للإسهاب والإطناب، والحذف للاختصار والإيجاز. فاعرف ذلك


(١) البيت من المنسرح وقد دخله الخرم، ولو قال: (فقاتلى) نجا من ذلك. وقد ذكره أبو رياش كاملا هكذا. وانظر التبريزى فى شرح الحماسة. ونهاية الشطر الأول «لا» وانظر الدمامينى فى الموطن السابق. (نجار).