باب فى تدريج اللغة
  ومن ذلك قولهم: صبية وصبيان؛ قلبت الواو من صبوان وصبوة فى التقدير - لأنه من صبوت - لانكسار الصاد قبلها، وضعف الباء أن تعتدّ حاجزا؛ لسكونها.
  وقد ذكرنا ذلك. فلمّا ألف هذا واستمرّ تدرّجوا منه إلى أن أقرّوا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة، وذلك قولهم أيضا: صبيان وصبية، (وقد) كان يجب - لمّا زالت الكسرة - أن تعود الياء واوا إلى أصلها، لكنهم أقرّوا الياء بحالها لاعتيادهم إيّاها حتى صارت كأنها كانت أصلا. وحسّن ذلك لهم شيء آخر، وهو أن القلب فى صبية وصبيان إنما كان استحسانا وإيثارا، لا عن وجوب علّة، ولا قوّة قياس؛ فلمّا لم تتمكّن علّة القلب ورأوا اللفظ بياء قوى عندهم إقرار الياء بحالها؛ لأن السبب الأوّل إلى قلبها لم يكن قويّا، ولا ممّا يعتاد فى مثله أن يكون مؤثّرا.
  ومن ذلك قولهم فى الاستثبات عمن قال ضربت رجلا: منا؟ ومررت برجل منى؟ وعندى رجل: منو؟ فلمّا شاع هذا ونحوه عنهم تدرّجوا منه إلى أن قالوا: ضرب من منا؛ كقولك: ضرب رجل رجلا.
  ومن ذلك قولهم: أبيض لياح، وهو من الواو؛ لأنه بياضه ما يلوح للناظر.
  فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وليس ذلك عن قوّة علّة، إنما هو للجنوح إلى خفّة الياء مع أدنى سبب، وهو التطرّق إليها بالكسرة طلبا للاستخفاف، لا عن وجوب قياس؛ ألا ترى أن هذا الضرب من (الأسماء التى ليست) جمعا كرباض، وحياض، ولا مصدرا جاريا على فعل معتلّ؛ كقيام، وصيام، إنما يأتى مصحّحا؛ نحو: خوان، وصوان؛ غير أنهم لميلهم عن الواو إلى الياء ما أقنعوا أنفسهم فى لياح فى قلبهم إيّاه إلى الواو بتلك الكسرة قبلها، وإن كانت ليس مما يؤثّر حقيقة التأثير مثلها، ولأنهم شبّهوه لفظا إمّا بالمصدر كحيال، وصيال، وإمّا بالجمع كسوط، وسياط، ونوط، ونياط. نعم، وقد فعلوا مثل هذا سواء فى موضع آخر. وذلك قول بعضهم فى صوان: صيان، وفى صوار: صيار؛ فلمّا ساغ ذلك من حيث أرينا أو كاد تدرّجوا منه إلى أن فتحوا فاء لياح، ثم أقرّوا الياء بحالها وإن كانت الكسرة قبلها قد زايلتها، وذلك قولهم فيه: لياح. وشجّعه على ذلك شيئا أن قلب الواو ياء فى لياح لم يكن عن قوّة ولا استحكام علّة، وإنما هو لإيثار