الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى هذه اللغة: أفى وقت واحد وضعت

صفحة 417 - الجزء 1

  حاضر مشاهد. فعلى ذلك يكونون قدّموا بناء نحو كم، وكيف، وحيث، وقبل، وبعد، علما بأنهم سيستكثرون فيما بعد منها، فيجب لذلك تغييرها.

  فإن قلت: هلا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال فى الزمان، كما أنها أسبق رتبة منها فى الاعتقاد، واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه؛ إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء؛ لأنها عبارات عن الأشياء، ثم يأتوا بعدها بالأفعال التى بها تدخل الأسماء فى المعانى والأحوال، ثم جاءوا فيما بعد بالحروف؛ لأنك تراها لواحق بالجمل بعد تركبها، واستقلالها بأنفسها؛ نحو إن زيدا أخوك، وليت عمرا عندك، وبحسبك أن تكون كذا؟ قيل يمنع من هذا أشياء: منها وجودك أسماء مشتقّة من الأفعال؛ نحو قائم من قام، ومنطلق من انطلق؛ ألا تراه يصحّ لصحّته، ويعتلّ لاعتلاله؛ نحو ضرب فهو ضارب، وقام فهو قائم، (وناوم فهو مناوم). فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقّا من الفعل فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل فى الزمان، وقد رأيت الاسم مشتقّا منه ورتبة المشتقّ منه أن يكون أسبق من المشتقّ نفسه. وأيضا فإن المصدر مشتقّ من الجوهر؛ كالنبات من النبت، وكالاستحجار من الحجر، وكلاهما اسم. وأيضا فإن المضارع يعتلّ لاعتلال الماضى، وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضى.

  وأيضا فإن كثيرا من الأفعال مشتقّ من الحروف؛ نحو قولهم: سألتك حاجة فلوليت لى، أى قلت لى: لو لا، وسألتك حاجة فلا ليت لى، أى قلت لى: لا.

  واشتقّوا أيضا المصدر - وهو اسم - من الحرف، فقالوا: اللالاة واللولاة، وإن كان الحرف متأخّرا فى الرتبة عن الأصلين قبله: الاسم والفعل. وكذلك قالوا:

  سوّفت الرجل، أى قلت له: سوف، وهذا فعل - كما ترى - مأخوذ من الحرف.

  ومن أبيات الكتاب:

  لو ساوفتنا بسوف من تحيّتها ... سوف العيوف لراح الركب قد قنع⁣(⁣١)


(١) البيت من البسيط، وهو لابن مقبل فى ديوانه ص ١٧٢، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٣٨٤، ولسان العرب (سوف)، والكتاب ٤/ ٢١٢، والمحتسب ١/ ٢٩٨. ساوفتنا: واعدتنا بسوف أفعل. العيوف: الكاره والكارهة، يقول: لو وعدتنا بتحية فى المستقبل لقنعنا.