الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

فصل فى التقديم والتأخير

صفحة 174 - الجزء 2

  «يوم» بقوله «لقادر» لئلّا يصغر المعنى؛ لأنّ الله تعالى قادر يوم تبلى السرائر وغيره فى كل وقت وعلى كل حال على رجع البشر وغيرهم. وكذلك قول الآخر.

  ولا تحسبنّ القتل محضا شربته ... نزارا ولا أنّ النفوس استقرّت⁣(⁣١)

  ومعناه: لا تحسبنّ قتلك نزارا محضا شربته؛ إلا أنه وإن كان هذا معناه فإن إعرابه على غيره وسواه؛ ألا ترى أنك إن حملته على هذا جعلت (نزارا) فى صلة المصدر الذى هو (القتل) وقد فصلت بينهما بالمفعول الثانى الذى هو (محضا)، وأنت لا تقول: حسبت ضربك جميلا زيدا وأنت تقدّره على: حسبت ضربك زيدا جميلا؛ لما فيه من الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبىّ. فلا بدّ إذا من أن تضمر لنزار ناصبا يتناوله، يدلّ عليه قول: (القتل) أى قتلت نزارا. وإذا جاز أن يقوم الحال مقام اللفظ بالفعل كان اللفظ بأن يقوم مقام اللفظ أولى وأجدر.

  وذاكرت المتنبئ شاعرنا نحوا من هذا، وطالبته به فى شيء من شعره، فقال: لا أدرى ما هو، إلا أنّ الشاعر قد قال:

  *لسنا كمن حلّت إياد دارها*

  البيت. فعجبت من ذكائه وحضوره مع قوة المطالبة له حتى أورد ما هو فى معنى البيت الذى تعقّبته عليه من شعره. واستكثرت ذلك منه. والبيت قوله:

  ووفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

  وذكرنا ذلك لاتصاله بما نحن عليه؛ فإن الأمر يذكر للأمر.

  وأنشدنا أبو علىّ للكميت:

  كذلك تلك وكالناظرات ... صواحبها ما يرى المسحل⁣(⁣٢)

  أى وكالناظرات ما يرى المسحل صواحبها. فإن حملته على هذا ركبت قبح الفصل. فلا بدّ إذا أن يكون «ما يرى المسحل» محمولا على مضمر يدلّ عليه قوله


(١) المحض: اللبن الخالص لا رغوة فيه. نزار: أبو قبيلة، وهو نزار بن معدّ بن عدنان. اللسان (نزر).

(٢) المسحل: جانب اللحية، وهما مسحلان.