الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

مقدمة المؤلف

صفحة 75 - الجزء 1

  يكون من الفقر⁣(⁣١) إلى غيره، على ما قدّمناه، فكان إلى الاعتقاد المحتاج إلى البيان أقرب، وبأن يعبّر به عنه أليق. فاعرف ذلك.

  فإن قيل: ولم وضع الكلام على ما كان مستقلا بنفسه البتّة، والقول على ما قد يستقلّ بنفسه، وقد يحتاج إلى غيره؟ الاشتقاق قضى بذلك؟ أم لغيره من سماع متلقّى بالقبول والاتباع؟ قيل: لا، بل لاشتقاق قضى بذلك دون مجرّد السماع.

  وذلك أنا قد قدّمنا فى أوّل القول من هذا الفصل أنّ الكلام إنما هو من الكلم، والكلام والكلوم وهى الجراح؛ لما يدعو إليه، ولما يجنيه فى أكثر الأمر على المتكلمة، وأنشدنا فى ذلك قوله:

  * وجرح اللسان كجرح اليد⁣(⁣٢) *

  ومنه قوله:

  قوارص تأتينى ويحتقرونها ... وقد يملا القطر الإناء فيفعم⁣(⁣٣)

  ونحو ذلك من الأبيات، التى جئنا بها هناك وغيرها، مما يطول به الكتاب، وإنما ينقم من القول ويحقر، ما ينثى⁣(⁣٤) ويؤثر، وذلك ما كان منه تامّا غير ناقص، ومفهوما غير مستبهم، وهذه صورة الجمل، وهو ما كان من الألفاظ قائما برأسه، غير محتاج إلى متمّم له، فلهذا سمّوا ما كان من الألفاظ تامّا مفيدا كلاما؛ لأنه فى غالب الأمر وأكثر الحال مضرّ بصاحبه، وكالجارح له. فهو إذا من الكلوم التى هى الجروح. وأمّا القول فليس فى أصل اشتقاقه ما هذه سبيله؛ ألا ترى أنا قد عقدنا تصرف «ق و ل» وما كان أيضا من تقاليبها الستة، فأرينا أنّ جميعها إنما هو


(١) فى عبارة اللسان: «المفتقر». (نجار).

(٢) سبق تخريجه.

(٣) البيت من الطويل، وهو للفرزدق فى ديوانه ٢/ ١٩٥، ولسان العرب (قرص)، وتهذيب اللغة (٨/ ٣٦٦)، وجمهرة اللغة ص ٩٣٧، وتاج العروس (قرص)، وأساس البلاغة (قرص)، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٧٤٢، ومقاييس اللغة ٥/ ٧١، ومجمل اللغة ٤/ ١٥٣، وكتاب العين ٥/ ٦١.

(٤) يقال: نثا الحديث والخبر نثوا: حدّث به وأشاعه وأظهره. ونثا عليه قولا: أخبر به عنه؛ و ... والنثا فى الكلام يطلق على القبيح والحسن، يقال: ما أقبح نثاه وما أحسن نثاه. اللسان: (نثا).