باب فى أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة
  وإنما هو مربد واحد؛ فثناه مجازا لما يتصل به من مجاوره، ثم إنه مع ذلك وكده وإن كان مجازا. وقد يجوز أن يكون سمّى كل واحد من جانبيه مربدا.
  وقال الآخر:
  إذا البيضة الصّماء عضّت صفيحة ... بحربائها صاحت صياحا وصلّت(١)
  فأكد (صاحت) وهو مجاز بقوله: صياحا.
  (وأما) قول الله ø: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً}[النساء: ١٦٤] فليس من باب المجاز (فى الكلام) بل هو حقيقة؛ قال أبو الحسن(٢): خلق الله لموسى كلاما فى الشجرة، فكلّم به موسى، وإذا أحدثه كان متكلّما به. فأمّا أن يحدثه فى شجرة أو فم أو غيرهما فهو شيء آخر؛ لكن الكلام واقع؛ ألا ترى أن المتكلم منا إنما يستحقّ هذه الصفة بكونه متكلّما لا غير، لا لأنه أحدثه فى آلة نطقه، وإن كان لا يكون متكلما حتى يحرّك به آلات نطقه.
  فإن قلت: أرأيت لو أن أحدنا عمل آلة مصوّتة وحرّكها واحتذى بأصواتها أصوات الحروف المقطعة المسموعة فى كلامنا أكنت تسمّيه متكلما وتسمّى تلك الأصوات كلاما؟.
  فجوابه ألا تكون تلك الأصوات كلاما، ولا ذلك المصوّت لها متكلّما. وذلك أنه ليس فى قوّة البشر أن يوردوه بالآلات التى يصنعونها على سمت الحروف المنطوق بها وصورتها (فى النفس)؛ لعجزهم عن ذلك. وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه اليسير من حروفنا؛ فلا يستحقّ لذلك أن تكون كلاما، ولا أن يكون الناطق بها متكلما؛ كما أن الذى يصوّر الحيوان تجسيما أو ترقيما لا يسمى خالقا للحيوان، وإنما يقال مصوّر وحاك ومشبّه. وأمّا القديم سبحانه فإنه قادر على إحداث الكلام على صورته الحقيقية، وأصواته الحيوانية فى الشجرة والهواء، وما أحبّ سبحانه وشاء. فهذا فرق.
  فإن قلت: فقد أحال سيبويه قولنا: أشرب ماء البحر، وهذا منه حظر للمجاز
(١) البيضة: الخوذة. والحرباء: مسمار الدرع. اللسان (حرب). والصفيحة: السيف العريض.
(٢) لأن منهج المعتزلة ينكرون الكلام النفسى لله سبحانه.