الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب القول على أصل اللغة إلهام هى أم اصطلاح؟

صفحة 99 - الجزء 1

  وصهيل الفرس، ونزيب⁣(⁣١) الظبى ونحو ذلك. ثمّ ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندى وجه صالح، ومذهب متقبّل.

  واعلم فيما بعد، أننى على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعى والخوالج قويّة التجاذب لى، مختلفة جهات التغوّل⁣(⁣٢) على فكرى. وذلك أننى إذا تأمّلت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقّة، والإرهاف، والرقّة، ما يملك علىّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة⁣(⁣٣) السحر. فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحّة ما وفّقوا لتقديمه منه. ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه. وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جل وعزّ؛ فقوى فى نفسى اعتقاد كونها توفيقا من الله سبحانه، وأنها وحى.

  ثم أقول فى ضدّ هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا - وإن بعد مداه عنا - من كان ألطف منا أذهانا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانا. فأقف⁣(⁣٤) بين تين الخلّتين حسيرا، وأكاثرهما فأنكفئ مكثورا. وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلّق الكف بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق.

  * * *


(١) النزيب: صوت تيس الظباء عند السفاد.

(٢) تغوّل الأمور: اشتباهها وتناكرها.

(٣) الغلوة: الغاية فى سبق الخيل، يريد أنه يدنو من غاية السحر.

(٤) يبدو من هذا أن مذهب ابن جنى فى هذا المبحث الوقف، فهو لا يجزم بأحد الرأيين: الاصطلاح والتوقيف قال (النجار): وقد صرح بهذا ابن الطيب فى شرح الاقتراح.