الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية؟

صفحة 100 - الجزء 1

باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية⁣(⁣١)؟

  اعلم أن علل النحويين - وأعنى بذلك حذّاقهم المتقنين لا ألفافهم⁣(⁣٢) المستضعفين - أقرب إلى علل المتكلمين، منها إلى علل المتفقهين. وذلك أنهم إنما يحيلون على الحسّ، ويحتجّون فيه بثقل الحال أو خفّتها على النفس؛ وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنما هى أعلام، وأمارات، لوقوع الأحكام، ووجوه الحكمة فيها خفيّة عنا، غير بادية الصفحة⁣(⁣٣) لنا؛ ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج، وفرائض الطهور، والصلاة، والطلاق، وغير ذلك، إنما يرجع فى وجوبه إلى ورود الأمر بعمله، ولا تعرف علة جعل الصلوات فى اليوم والليلة خمسا دون غيرها من العدد، ولا يعلم أيضا حال الحكمة والمصلحة فى عدد الركعات، ولا فى اختلاف ما فيها من التسبيح والتلاوات؛ إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ولا تحلى⁣(⁣٤) النفس بمعرفة السبب الذى كان له ومن أجله؛ وليس كذلك علل النحويين. وسأذكر طرفا من ذلك لتصحّ الحال به.


(١) لما كان هم أبى الفتح فى هذا الكتاب إبداء حكمة العرب وسداد مقاصدهم فيما أتوا فى لغتهم، وكان ذلك بإبداء العلل لسننهم وخططهم فى تأليف لسانهم أخذ نفسه فى تقوية العلل التى تنسب إلى أفعالهم وتحمل عليهم؛ وهو ما يقوم به النحويون. وكان من دواعى ذلك أن اشتهر بين الناس ضعف علل النحاة؛ فهذا ابن فارس يقول:

مرّت بنا هيفاء مجدولة ... تركية تنمى لتركى

ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحويّ

انظر وفيات ابن خلكان ص ٣٦ ج ١ فى ترجمة ابن فارس. (نجار).

(٢) يقال جاء القوم بلفّهم ولفّتهم ولفيفهم أى بجماعتهم وأخلاطهم؛ وجاء لفهم ولفّهم ولفيفهم كذلك، واللفيف: القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدا ... ، واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتّى فيهم الشريف والدنئ والمطيع والعاصى والقوى والضعيف. اللسان (لفف).

(٣) الصفحة: الجنب والجانب، وهو كناية عن الظهور والوضوح.

(٤) أى لا تظفر، يقال: حليت من فلان بخير: أصبته وأدركته، ومن ذلك قولهم: ما حليت من هذا الأمر بطائل، وهو من باب علم.