الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى أغلاط العرب

صفحة 476 - الجزء 2

  قيل: هبه لا يعرف التصريف (أتراه لا) يحسن بطبعه وقوّة نفسه ولطف حسّه هذا القدر! هذا ما لا يجب أن يعتقده عارف بهم، أو آلف لمذاهبهم؛ لأنه وإن لم يعلم حقيقة تصريفه بالصنعة فإنه يجده بالقوّة؛ ألا ترى أن أعرابيّا بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح، فلمّا شرب بعضها كظّه الأمر فقال: كبش أملح. فقيل له: ما هذا! تنحنحت. فقال: من تنحنح، فلا أفلح. ألا تراه كيف استعان لنفسه ببحّة الحاء، واستروح إلى مسكة النفس بها، وعللها بالصويت اللاحق (لها فى الوقف) ونحن مع هذا نعلم أن هذا الأعرابىّ لا يعلم أن فى الكلام شيئا يقال له حاء، فضلا عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة، وأن الصوت يلحقها فى حال سكونها والوقف عليها، ما لا يلحقها فى حال حركتها أو إدراجها فى حال سكونها، فى نحو بحر، ودحر⁣(⁣١)؛ إلا أنه وإن لم يحسن شيئا من هذه الأوصاف صنعة ولا علما، فإنه يجدها طبعا ووهما. فكذلك الآخر: لمّا سمع ملكا وطال ذلك عليه أحسّ من ملك فى اللفظ ما يحسّه من حلك. فكما أنه يقال: أسود حالك قال هنا من لفظة ملك: مالك، وإن لم يدر أن مثال ملك فعل أو مفل، ولا أن مالكا هنا فاعل أو مافل. ولو بنى من ملك على حقيقة الصنعة فاعل لقيل: لائك؛ كبائك، وحائك.

  وإنما مكّنت القول فى هذا الموضع ليقوى فى نفسك قوّة حسّ هؤلاء القوم، وأنهم قد يلاحظون بالمنّة والطباع، ما لا نلاحظه نحن عن طول المباحثة والسماع.

  فتأمّله؛ فإن الحاجة إلى مثله ظاهرة.

  ومن ذلك همزهم مصائب. وهو غلط منهم. وذلك أنّهم شبهوا مصيبة بصحيفة (فكما همزوا صحائف همزوا أيضا مصائب، وليست ياء مصيبة زائدة كياء صحيفة)؛ لأنها عين، ومنقلبة عن واو، هى العين الأصلية. وأصلها مصوبة؛ لأنها اسم الفاعل من أصاب؛ كما أن أصل مقيمة مقومة، وأصل مريدة مرودة، فنقلت الكسرة من العين إلى الفاء، فانقلبت الواو ياء، على ما ترى. وجمعها القياسىّ مصاوب. وقد جاء ذلك؛ قال:


(١) الدحر: الطرد والإبعاد.