الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى جمع الأشباه من حيث يغمض الاشتباه

صفحة 510 - الجزء 2

باب فى جمع الأشباه من حيث يغمض الاشتباه

  هذا غور من اللغة بطين، يحتاج مجتابه إلى فقاهة فى النفس، ونصاعة من الفكر، ومساءلة خاصّيّة، ليست بمبتذلة ولا ذات هجنة.

  ألقيت يوما على بعض من كان يعتادنى، فقلت: من أين تجمع بين قوله:

  لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب⁣(⁣١)

  وبين قولنا: اختصم زيد وعمرو؟ فأجبل⁣(⁣٢) ورجع مستفهما. فقلت: اجتماعهما من حيث وضع كل واحد منهما فى غير الموضع الذى بدئ له. وذلك أن الطريق خاصّ وضع موضع العامّ. (وذلك) أن وضع هذا أن يقال: كما عسل أمامه الثعلب، وذلك الأمام قد كان يصلح لأشياء من الأماكن كثيرة: من طريق وعسف وغيرهما. فوضع الطريق - وهو بعض ما كان يصلح للإمام أن يقع عليه - موضع الإمام. فنظير هذا أنّ واو العطف وضعها لغير الترتيب، وأن تصلح للأوقات الثلاثة؛ نحو جاء زيد وبكر. فيصلح أن يكونا جاءا معا، وأن يكون زيد قبل بكر، وأن يكون بكر قبل زيد. ثم إنك قد تنقلها من هذا العموم إلى الخصوص. وذلك قولهم: اختصم زيد وعمرو. فهذا لا يجوز أن يكون الواو فيه إلا لوقوع الأمرين فى وقت واحد. ففى هذا أيضا إخراج الواو عن أوّل ما وضعت له فى الأصل: من صلاحها للأزمنة الثلاثة، والاقتصار بها على بعضها؛ كما اقتصر على الطريق


(١) البيت من الكامل، وهو لساعدة بن جؤية الهذلى فى تخليص الشواهد ص ٥٠٣، وخزانة الأدب ٣/ ٨٣، ٨٦، والدرر ٣/ ٨٦، وشرح أشعار الهذليين ص ١١٢٠، وشرح التصريح ١/ ٣١٢، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٥٥، وشرح شواهد المغنى ص ٨٨٥، والكتاب ١/ ٣٦، ٢١٤، ولسان العرب (وسط)، (عسل)، والمقاصد النحوية ٢/ ٥٤٤، ونوادر أبى زيد ص ١٥، وبلا نسبة فى أسرار العربية ص ١٨٠، وأوضح المسالك ٢/ ١٧٩، وجمهرة اللغة ص ٨٤٢، وشرح الأشمونى ١/ ١٩٧، ومغنى اللبيب ص ١١، وهمع الهوامع ١/ ٢٠٠.

(٢) وفى حديث عكرمة: ما لك أجبلت، أى انقطعت، من قولهم أجبل الحافر إذا أفضى إلى الجبل أو الصخر الذى لا يحيك فيه المعول. وسألته فأجبل، أى وجدته جبلا. اللسان (جبل).