باب ذكر علل العربية أكلامية هى أم فقهية؟
  جملة لغتهم كما عنّ، وعلى ما اتّجه، لا لأمر خصّ هذا دون غيره مما هذه سبيله؛ وعلى هذه الطريقة ينبغى أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله؛ ولكن لا ينبغى أن تخلد إليها، إلا بعد السبر والتأمّل، والإنعام والتصفّح؛ فإن وجدت عذرا مقطوعا به صرت إليه، واعتمدته، وإن تعذر ذلك، جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال؛ فإنك لا تعدم هناك مذهبا تسلكه، ومأما تتورّده. فقد أريتك فى ذلك أشياء: أحدها استثقالهم الحركة التى هى أقل من الحرف، حتى أفضوا فى ذلك إلى أن أضعفوها، واختلسوها، ثم تجاوزوا ذلك إلى أن انتهكوا حرمتها، فحذفوها، ثم ميّلوا(١) بين الحركات فأنحوا على الضمة والكسرة لثقلهما، وأجمّوا(٢) الفتحة فى غالب الأمر لخفتها، فهل هذا إلا لقوّة نظرهم ولطف استشفافهم وتصفّحهم.
  أنشدنا مرة أبو عبد الله الشجرىّ شعرا لنفسه، فيه بنو عوف، فقال له بعض الحاضرين: أتقول: بنو عوف، أم بنى عوف؟ شكا من السائل فى بنى وبنو؛ فلم يفهم الشجرىّ ما أراده، وكان فى ثنايا السائل فضل فرق(٣)، فأشبع الصويت الذى يتبع الفاء فى الوقف؛ فقال الشجرى، مستنكرا لذلك: لا أقوى فى الكلام على هذا النفخ.
  وسألت غلاما من آل المهيّا فصيحا عن لفظة من كلامه لا يحضرنى الآن ذكرها، فقلت: أكذا، أم كذا؟ فقال: «كذا بالنصب؛ لأنه أخف»، فجنح إلى الحفة، وعجبت من هذا مع ذكره النصب بهذا اللفظ. وأظنه استعمل هذه اللفظة لأنها مذكورة عندهم فى الإنشاد الذى يقال له النصب، مما يتغنّى به الركبان.
  وسنذكر فيما بعد بابا نفصل فيه بين ما يجوز السؤال عنه مما لا يجوز ذلك فيه بإذن الله.
  ومما يدلك على لطف القوم ورقّتهم مع تبذّلهم، وبذاذة ظواهرهم؛ مدحهم بالسباطة والرشاقة، وذمّهم بضدّها من الغلظة والغباوة، ألا ترى إلى قولها:
(١) ميّل: تردد.
(٢) أكثروا استعمالها. من قولهم: أجمّ البئر، تركها يجتمع ماؤها.
(٣) الفرق - بالتحريك -: تباعد بين الثّنيتين. اللسان (فرق).