باب فى مقاييس العربية
  ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته ... على السّنّ خيرا لا يزال يزيد(١)
  فإنك قائل: دخلت على «ما» - وإن كانت «ما» هاهنا مصدريّة -؛ لشبهها لفظا بما النافية التى تؤكّد بإن من قوله:
  ما إن يكاد يخلّيهم لوجهتهم ... تخالج الأمر إن الأمر مشترك(٢)
  وشبه اللفظ بينهما يصيّر «ما» المصدرية إلى أنها كأنها «ما» التى معناها النفى؛ أفلا ترى أنك لو لم تجذب إحداهما إلى أنها كأنها بمعنى الأخرى لم يجز لك إلحاق «إن» بها.
  فالمعنى إذا أشيع وأسير حكما من اللفظ؛ لأنك فى اللفظىّ متصوّر لحال المعنوىّ، ولست فى المعنوىّ بمحتاج إلى تصوّر حكم اللفظىّ. فاعرف ذلك.
  واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل، ما إذا تأمّلته عرفت منه قوّة عنايتها بهذا الشأن، وأنه منها على أقوى بال؛ ألا ترى أنهم لمّا أعربوا بالحروف فى التثنية والجمع الذى على حدّه، فأعطوا الرفع فى التثنية الألف، والرفع فى الجمع الواو، والجرّ فيهما الياء، وبقى النصب لا حرف له فيماز به، جذبوه إلى الجرّ فحملوه عليه دون الرفع؛ لتلك الأسباب المعروفة هناك، فلا حاجة بنا هنا إلى الإطالة بذكرها، ففعلوا ذلك ضرورة، ثم لمّا صاروا إلى جمع التأنيث حملوا النصب أيضا على الجرّ، فقالوا ضربت الهندات (كما قالوا مررت بالهندات) ولا ضرورة هنا؛ لأنهم قد كانوا قادرين على أن يفتحوا التاء فيقولوا: رأيت الهندات، فلم يفعلوا ذلك مع إمكانه وزوال الضرورة التى عارضت فى المذكر عنه، فدلّ دخولهم تحت هذا - مع أن الحال لا تضطرّ إليه -
(١) البيت من الطويل، وهو للمعلوط القريعى فى شرح التصريح ١/ ١٨٩، وشرح شواهد المغنى ص ٨٥، ٧١٦، ولسان العرب (أنن)، والمقاصد النحويّة ٢/ ٢٢، وبلا نسبة فى الأزهية ص ٥٢، ٩٦ والأشباه والنظائر ٢/ ١٨٧، وأوضح المسالك ١/ ٢٤٦، والجنى الدانى ص ٢١١، وجواهر الأدب ص ٢٠٨، وخزانة الأدب ٨/ ٤٤٣، والدرر ٢/ ١١٠، وسر صناعة الإعراب ١/ ٣٧٨، وشرح المفصل ٨/ ١٣٠، والكتاب ٤/ ٢٢٢، ومغنى اللبيب ١/ ٢٥، والمقرب ١/ ٩٧، وهمع الهوامع ١/ ١٢٥.
(٢) البيت من البسيط، وهو لزهير بنى أبى سلمى فى ديوانه ص ١٦٥، ولسان العرب (أنن)، والمقتضب ٢/ ٣٦٣، وتاج العروس (أنن).