الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ

صفحة 241 - الجزء 1

  نعم، وفى قوله:

  * وسالت بأعناق المطىّ الأباطح⁣(⁣١) *

  من الفصاحة ما لا خفاء به. والأمر فى هذا أسير، وأعرف وأشهر.

  فكأنّ العرب إنما تحلّى ألفاظها وتدبجها وتشيها، وتزخرفها، عناية بالمعان التى وراءها، وتوصّلا بها إلى إدراك مطالبها، وقد قال رسول الله ÷: «إنّ من الشعر لحكما وإنّ من البيان لسحرا»⁣(⁣٢). فإذا كان رسول الله ÷ يعتقد هذا فى ألفاظ هؤلاء القوم، التى جعلت مصايد وأشراكا للقلوب، وسببا وسلّما إلى تحصيل المطلوب، عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعانى، والمخدوم - لا شكّ - أشرف من الخادم.

  والأخبار فى التلطّف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها، أو يتجشّم للحال (نعت لها)، ألا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة، فقال المسئول: إن علىّ يمينا ألا أفعل هذا. فقال له السائل: إن كنت - أيّدك الله - لم تحلف يمينا قطّ على أمر فرأيت غيره خيرا منه فكفّرت عنها له، وأمضيته، فما أحبّ أن أحنثك، وإن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلنى أدون الرجلين عندك. فقال له: سحرتنى، وقضى حاجته.

  وندع هذا ونحوه لوضوحه، ولنأخذ لما كنا عليه فنقول:

  مما يدلّ على اهتمام العرب بمعانيها، وتقدّمها فى أنفسها على ألفاظها، أنهم قالوا فى شمللت، وصعررت⁣(⁣٣)، وبيطرت، وحوقلت، ودهورت⁣(⁣٤)، وسلقيت⁣(⁣٥)، وجعبيت⁣(⁣٦): إنها ملحقة بباب دحرجت. وذلك أنهم وجدوها على سمتها: عدد


(١) سبق تخريجه.

(٢) «صحيح» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وغيرهم، وانظر صحيح أبى داود (ح ٤١٩٠)، وراجع الصحيحة (١٧٣١).

(٣) صعرر الشئ فتصعرر دحرجه فتدحرج واستدار. اللسان (صعرر).

(٤) الدهورة: جمعك الشئ وقذفك به فى مهواة؛ ودهورت الشئ: كذلك. اللسان (دهر).

(٥) سلقيت: مأخوذ من السلق وهو الصدم والدفع. اللسان (سلق).

(٦) جعبيته جعباء: صرعته. اللسان (جعب).