الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى نقض المراتب إذا عرض هناك عارض

صفحة 303 - الجزء 1

  وفيها:

  فى باذخات من عماية أو ... يرفعه دون السماء خيم⁣(⁣١)

  والأمر فى كثرة تقديم المفعول على الفاعل فى القرآن وفصيح الكلام متعالم غير مستنكر، فلمّا كثر وشاع تقديم المفعول [على الفاعل] كان الموضع له، حتى إنه إذا أخّر فموضعه التقديم، فعلى ذلك كأنه قال: جزى عدىّ بن حاتم ربّه، ثم قدّم الفاعل على أنه قد قدّره مقدّما عليه مفعوله فجاز ذلك، ولا تستنكر هذا الذى صوّرته لك ولا يجف عليك؛ فإنه مما تقبله هذه اللغة ولا تعافه ولا تتبشّعه؛ ألا ترى أن سيبويه أجاز فى جرّ (الوجه) من قولك: هذا الحسن الوجه أن يكون من موضعين: أحدهما بإضافة الحسن إليه، والآخر تشبيه له بالضارب الرجل، هذا مع أنّا قد أحطنا علما بأن الجرّ فى (الرجل) من قولك: هذا الضارب الرجل إنما جاءه وأتاه من جهة تشبيههم إيّاه بالحسن الوجه، لكن لما اطّرد الجرّ فى نحو هذا الضارب الرجل، والشاتم الغلام، صار كأنه أصل فى بابه، حتى دعا ذاك سيبويه إلى أن عاد (فشبه الحسن الوجه) بالضارب الرجل، [من الجهة التى إنما صحّت للضارب الرجل تشبيه بالحسن الوجه] وهذا يدلّك على تمكّن الفروع عندهم، حتى إن أصولها التى أعطتها حكما من أحكامها قد حارت فاستعادت من فروعها ما كانت هى أدّته إليها، وجعلته عطيّة منها لها، فكذلك أيضا يصير تقديم المفعول لمّا استمرّ وكثر كأنه هو الأصل، وتأخير الفاعل كأنه أيضا هو الأصل.

  فإن قلت، إنّ هذا ليس مرفوعا إلى العرب ولا محكيّا عنها أنها رأته مذهبا، وإنما هو شيء رآه سيبويه واعتقده قولا، ولسنا نقلّد سيبويه ولا غيره فى هذه العلّة ولا غيرها، فإن الجواب عن هذا حاضر عتيد، والخطب فيه أيسر، وسنذكره فى باب يلى هذا بإذن الله. ويؤكّد أن الهاء فى (ربه) لعدىّ بن حاتم من جهة المعنى عادة العرب فى الدعاء؛ ألا تراك لا تكاد تقول: جزى ربّ زيد عمرا، وإنما يقال: جزاك ربّك خيرا أو شرا. وذلك أوفق؛ لأنه إذا كان مجازيه ربّه كان أقدر على جزائه وأملأ به. ولذلك جرى العرف بذلك فاعرفه.


(١) عماية: جبل من جبال هذيل. خيم: جبل. اللسان (عمى)، (خيم).