الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

مقدمة المؤلف

صفحة 72 - الجزء 1

  فهذا أمر قدمناه أمام القول على الفرق بين الكلام والقول؛ ليرى منه غور هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، ويعجب من وسيع مذاهبها، وبديع ما أمدّ به واضعها ومبتدئها. وهذا أوان القول على الفصل.

  أما الكلام فكل لفظ مستقلّ بنفسه، مفيد لمعناه. وهو الذى يسميه النحويون الجمل، نحو زيد أخوك، وقام محمد، وضرب سعيد، وفى الدار أبوك، وصه، ومه، ورويد، وحاء وعاء فى الأصوات، وحسّ، ولبّ⁣(⁣١)، وأفّ، وأوّه. فكل لفظ استقل بنفسه، وجنيت منه ثمرة معناه فهو كلام.

  وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل⁣(⁣٢) به اللسان، تامّا كان أو ناقصا. فالتامّ هو المفيد، أعنى الجملة وما كان فى معناها، من نحو صه، وإيه. والناقص ما كان بضدّ ذلك، نحو زيد، ومحمد، وإن، وكان أخوك، إذا كانت الزمانية لا الحدثية⁣(⁣٣). فكل كلام قول، وليس كل قول كلاما. هذا أصله. ثم يتّسع فيه؛ فيوضع القول على الاعتقادات والآراء؛ وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبى حنيفة، ويذهب إلى قول مالك، ونحو ذلك، أى يعتقد ما كانا يريانه، ويقولان به، لا أنه يحكى لفظهما عينه، من غير تغيير لشيء من حروفه؛ ألا ترى أنك لو سألت رجلا عن علّة رفع زيد، من نحو قولنا: زيد قام أخوه، فقال لك: ارتفع بالابتداء لقلت: هذا قول البصريين. ولو قال: ارتفع بما يعود عليه من ذكره لقلت: هذا قول الكوفيين، أى هذا رأى هؤلاء، وهذا اعتقاد هؤلاء. ولا تقوا: كلام البصريين، ولا كلام الكوفيين، إلا أن تضع الكلام موضع القول، متجوّزا


(١) لب: فى معنى لبيك فى لغة بعض العرب، وهو فى هذه الحالة يجرى مجرى أمس وغاق.

انظر اللسان. (نجار).

(٢) فى اللسان: مذلت نفسه بالشئ مذلا، ومذلت مذالة: طابت وسمحت، ورجل مذل النفس والكفّ واليد: سمح، ومذل بماله، ومذل: سمح. فإذا قيل مذل لسانه بكذا أى: سمح به وسهل عليه.

(٣) يقصد بكان الزمانية: الناقصة كما فى قولك: كان زيد مسافرا، وسماها بالزمانية لدلالتها على الزمن الماضى، أما الحدثية فيقصد بها كان التامّة فى نحو قولهم:

إذا كان الشتاء فأدفئونى ... فإن الشيخ يهرمه الشتاء

فمعنى (إذا كان الشتاء) أى (إذا حدث الشتاء ووقع) فلذا سمّاها بالحدثية لدلالتها على الحدث والوقوع. والله أعلم.