الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

مقدمة المؤلف

صفحة 73 - الجزء 1

  بذلك. وكذلك لو قلت: ارتفع لأن عليه عائدا من بعده، أو ارتفع لأن عائدا عاد إليه، أو لعود ما عاد من ذكره، أو لأنّ ذكره أعيد عليه، أو لأن ذكرا له عاد من بعده، أو نحو ذلك، لقلت فى جميعه: هذا قول الكوفيين، ولم تحفل باختلاف ألفاظه؛ لأنك إنما تريد اعتقادهم لا نفس حروفهم. وكذلك يقول القائل: لأبى الحسن فى هذه المسألة قول حسن، أو قول قبيح، وهو كذا، غير أنى لا أضبط كلامه بعينه.

  ومن أدلّ الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله، ولا يقال: القرآن قول الله؛ وذلك أنّ هذا موضع ضيق متحجّر، لا يمكن تحريفه، ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه. فعبر لذلك عنه بالكلام الذى لا يكون إلا أصواتا تامّة مفيدة، وعدل به عن القول الذى قد يكون أصواتا غير مفيدة، وآراء معتقدة. قال سيبويه: «واعلم أنّ «قلت» فى كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها، وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما لا قولا».

  ففرق بين الكلام والقول كما ترى. نعم وأخرج الكلام هنا مخرج ما قد استقرّ فى النفوس، وزالت عنه عوارض الشكوك. ثم قال فى التمثيل: «نحو قلت زيد منطلق؛ ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد منطلق» فتمثيله بهذا يعلم منه أنّ الكلام عنده ما كان من الألفاظ قائما برأسه، مستقلا بمعناه، وأنّ القول عنده بخلاف ذلك؛ إذ لو كانت حال القول عنده حال الكلام لما قدّم الفصل بينهما، ولما أراك فيه أن الكلام هو الجمل المستقلّة بأنفسها، الغانية عن غيرها، وأنّ القول لا يستحقّ هذه الصفة، من حيث كانت الكلمة الواحدة قولا، وإن لم تكن كلاما، ومن حيث كان الاعتقاد والرأى قولا، وإن لم يكن كلاما. فعلى هذا يكون قولنا قام زيد كلاما، فإن قلت شارطا: إن قام زيد، فزدت عليه «إن» رجع بالزيادة إلى النقصان، فصار قولا لا كلاما؛ ألا تراه ناقصا، ومنتظرا للتمام بجواب الشرط.

  وكذلك لو قلت فى حكاية القسم: حلفت بالله، أى كان قسمى هذا لكان كلاما، لكونه مستقلا، ولو أردت به صريح القسم لكان قولا، من حيث كان ناقصا؛ لاحتياجه إلى جوابه. فهذا ونحوه من البيان ما تراه.

  فأمّا تجوّزهم فى تسميتهم الاعتقادات والآراء قولا فلأن الاعتقاد يخفى فلا