ذكر طرف من مناقبه وأحواله #:
  قال: ثم أنعم في البكاء فلم أسمع له حسا ولا حركة، فقلت: غلبه النوم بطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك، فزويته فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبي طالب، قال: فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم، فقالت فاطمة &:
  يا أبا الدرداء هي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق، فنظر إليّ وأنا أبكي، فقال: ما بكاؤك؟ فقلت: مما أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء فكيف لو رأيتني وقد دعيت إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعقاب(١)، واحتوشتني ملائكة غلاظ، وزبانية أفظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار قد أسلمني الأحباء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية! قال أبو الدرداء: ما رأيت أحدا من أصحاب محمد ÷ مثل ذلك.
  وروينا عن محمد بن السائب عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية، فقال له: صف لي عليا، فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟
  قال: لا أعفيك، قال: إذ لا بد، فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه(٢)، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وكان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفيه، ويحاسب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن.
  كان والله كأحدنا يدنينا إذا آذناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع قربه منا لا نكلمه هيبة منه، وإن تبسّم فمثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله
(١) في (ج) بالعذاب.
(٢) في (ب، ج): نواجذه.