ومن خطبة له # في الاستسقاء:
  ونوّره بالحكمة، ومرّنه على الزهد، وقوّه باليقين، وذلّله بالموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر، وفحش تقلب الأيام والليالي، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره ما أصاب من قبلك، وسر في ديارهم وآثارهم، وانظر ما فعلوا، وأين حلوا، وعمّا انقلبوا؟ فإنك تجدهم انقلبوا عن الأحبة، ونزلوا دار الغربة، فكأنك عن قليل صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والنظر في ما لم تكلّف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الوقوف عند حيرة الطريق خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف، وكن من أهله، وأنكر المنكر بلسانك ويدك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا يأخذك في الله لومة لائم.
  وفي رواية أخرى: وعوّد نفسك الصبر على المكروه، ونعم الخلق الصبر(١)، وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز، واخلص المسألة لربك، فإن في يديه العطاء والحرمان، وأكثر من الاستخارة، واحفظ وصيتي. ومن هاهنا اتفقت الروايتان: ولا تذهبن عنك صفحا، فإن خير القول ما نفع.
  واعلم يا بني أنه لا غناء بك عن حسن الارتياد، وبلاغ الزّاد، مع خفة الظهر، فلا تحمل على ظهرك فوق بلاغك، فيكون عليك ثقلا ووبالا، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل زادك فيوافيك به حيث ما تحتاج إليه فاغتنمه، فإن أمامك عقبة كئودا لا محالة، وإن مهبطها يكون على جنة أو على نار، فارتد يا بني لنفسك قبل نزولك، وأحسن إلى غيرك كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح لنفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضى لهم، ولرب بعيد أقرب من قريب، والغريب من ليس له حبيب، ولربّما أخطأ البصير قصده،
(١) في الأمالي والنهج: التصبر.