ومن خطبة له # في الاستسقاء:
  لا ينجو هاربه، فأكثر ذكر الموت، وما تهجم عليه، وتفضي بعد الموت إليه، واجعله أمامك حيث تراه، فيأتيك وقد أخذت حذرك، واذكر الآخرة وما فيها من النعيم والعذاب الأليم، فإن ذلك يزهدك في الدنيا، ويصغرها عندك، مع أن الدنيا قد نعت إليك نفسها، وتكشّفت لك عن مساوئها، وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهلها، وتكالبهم عليها، فإنما هم كلاب عادية، وسباع ضارية، يهرّ بعضها على بعض، يأكل عزيزها ذليلها، وكثيرها قليلها. واعلم يا بني أن من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن لم يسر، وأن الله قد أذن بخراب الدنيا وعمارة الآخرة، فإن تزهد فيما زهدتك فيه منها ورغبت عما رغبت عنها فأنت أهل لذلك، وإن كنت غير قابل نصيحتي فاعلم علما يقينا أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدوا أجلك، وإنك في سبيل من كان قبلك، فاخفض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فرب طلب جرّ إلى حرب.
  وانظر إلى إخوانك الذين كانوا لك في الدنيا مواسين، ومعك لله ذاكرين متكاتفين، قد خلوا عن الدور، وأقاموا في القبور إلى يوم النشور، وكأن قد سلكت مسلكهم، ووردت منهلهم، وفارقت الأحبة، ونزلت دار الغربة، ومحل الوحشة، وجاورت جيرانا افترقوا في التجاور، واشتغلوا عن التزاور، فاعمل لذلك المصرع، وهول المطلع، فيوشك أن تفارق الدنيا، وتنزل بك العظمى، وتصير القبور لك مثوى، واعمل ليوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويجيء فيه بصفوف الملائكة المقربين، حول العرش يجمعون على إنجاز موعود الآخرة، وزوال الدنيا الفانية، وتغير الأحوال، وتبدل الآمال من عدل القضاء، وفصل الجزاء في جميع الأشياء، فكم يومئذ من عين باكية، وعورة بادية، تجر إلى العذاب الأليم، وتسقى ماء الحميم، في مساكن الجحيم، إن صرخ لم يرحم، وإن صبر لم يؤجر، فاعمل لتلك الأخطار تتخلص من النار، وتكون مع الصالحين الأبرار ... يا بني: كن في الرخاء شكورا، وعند البلاء صبورا، ولربك ذكورا،