[تأكيد الله لأمر المهاجرة وتشديده لفريضته فيها]
  وكان الحكم في الدار حكمهم، وكانت داراً ظاهراً فيها ظلمهم - فهجرتها مفترضة واجبة، وحلولها هلكة معطبة، وبذلك وله ولما ذكرنا منه هلكت القرون والأمم، ودمرت القرى والمدن؛ إذ لم يكن فيها إلا ظالم معتدٍ، أو مجاور لمن ظلم غير مهتد، فلم يستحق الهلكة والتدمير من الفريقين إلا مذنب مجرم، يستوجب أن ينزل به من الله جل ثناؤه التدمير والنقم.
  فاسمعوا لخبر الله عمن دمر بالظلم من القرون والقرى، فإن به عبرة وموعظة شافية لمن يبصر ويسمع ويرى، قال الله سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ١٦ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ١٧}[الإسراء]، فخص الله مترفيها بالذكر في الفسق وإن كان كل أهلها فساقاً(١) في حكم الحق؛ لأن أهلها إنما هم مترف أو جبار، أو مُساكن لهم وجار، فكلهم فاسق عن أمر ربه، وكلٌّ فإنما أُخِذ بذنبه.
  وفي تذكير الله بإهلاكه للقرى ما يقول الله سبحانه مذكراً: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ١٦٣ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ١٦٤ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ١٦٥}[الأعراف].
  فكان أهل القرية ثلاث فرق، فرقة نسبها الله إلى العتاء والفسق، وفرقة من الفرق الثلاث معذرة مقصرة، وفرقة منهن واعظة ناهية مذكرة، تنهى من عتا عن الفسق والعتاء، وتذكر بما يجب لله من الطاعة والرضا، فلم يذكر الله تبارك
(١) في (أ) ونسختين: فاسقاً.