مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي،

القاسم بن إبراهيم الرسي (المتوفى: 246 هـ)

[تأكيد الله لأمر المهاجرة وتشديده لفريضته فيها]

صفحة 362 - الجزء 1

  وتعالى في خبره عنهم أنه عن أن يحويه قول أو يناله أنجى منهم إلا من أمر ونهى، وكان واعظاً منبهاً، وداعياً لهم إلى الله مُسمِعاً، ومُقبِّحاً لعتاهم مُشَنِّعاً، لم يذكر سبحانه عمن خلَّصه وأنجاه أنه أقام مع مَن وعظه ونهاه في محل الفسق والعتا، ولا سبت معهم في قريتهم سبتاً، ولا استحل فيها لهم جواراً، ولا قرَّ معهم فيها بعد العتاء قراراً.

  وكيف يقيمون معهم في القرية، مع ما أظهروا لله فيها من المعصية، يرونها فيها عياناً، ويوقنون بها إيقاناً، لله كان أجل في صدورهم جلالاً، وأكبر في نفوسهم أمراً وشاناً من أن يجاوروا مُشآقِّيه ومعاصيه، أو يقيموا جيراناً لمن يشاقُه ويعصيه، وهم لو جاورهم جارٌ في أنفسهم بما يسخطون، أو بكثير من الأذى والمكروه هم له ساخطون، لا يقدرون له على دفاع، ولا منه إلى امتناع - لما أقاموا ساعةً واحدةً معه، ولا سيما إذا كان لا يقدر أحد منهم على أن يدفعه، فكيف بمساخط الله التي هي في صدورهم أعظم، ولقلوبهم أحرق وآلم، ما يحل توهم ذلك عليهم، ولا نسبة شيء منها إليهم، والحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من مجاورة الظالمين.

  وفيما ذكرنا من هلكة القرى ما يقول الله تبارك وتعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ٤٥}⁣[الحج]، فذكر سبحانه إهلاكه لكلِّ مَن كان في القرية من ضعيف أو شديد؛ إذ لم يكن في القرية إلا جبارٌ أو جارٌ، وكلٌّ فقد حقت عليه من الله الهلكة والدمار؛ لأنهم كلهم لله عصاة، وعن أمره جل ثناؤه عتاة، جبارها بتجبُّره واستكباره، وجارها بمحالَّته للظالمين وجواره، فكلٌّ أهلكه الله بكسبه، وأخذه الله بجرمه وذنبه، كما قال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٠}⁣[العنكبوت]، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى