الدليل الصغير
  ووجه آخر: أنا وجدنا العالم وما فيه نوعين اثنين(١): حياً وميتاً، ووجدنا ما كان منه حياً فأقواه على التدبير وألطفه وأحيله الإنسان، ووجدنا الإنسان في حال قوته وتمامه وكماله عاجزاً عن الزيادة في نفسه والنقصان منها؛ فعلمنا بذلك أنه في حال القلة والنقصان عن إحداث نفسه أعجز وأضعف، وإذ هو من القوة على إحداث نفسه أبعد، مع ما وجدنا من ضعف الإنسان في حال بلوغه وكماله وقوته، وذلك أنه يسلب منه ما يحب غير ممتنع من ذلك، ويحدث به(٢) ما يكره مضطراً إلى ذلك؛ فلا يزول عنه بكراهيته ما يكره، ولا يبقى عليه ما يحب بإرادته، وكان في(٣) ذلك أعظم الدلالة على أن له إلهاً محدِثاً أحدثه [ومصوراً صوره](٤) ومصرفاً صرفه على ما أحب وكره.
  وإذا كان أقوى الحيوان على التدبير وأحيله وألطفه هذه صفته فما دونه أولى بالعجز عن إحداث نفسه، والموات أعجز أن يحدث نفسه إذا عجز الحيوان عن إحداث نفسه.
  ووجه آخر يوضح فساد إحداث الإنسان نفسه: وذلك أن كل فاعل فعل شيئاً فموهوم منه ترك ما فعل، فلو كان الإنسان هو الفاعل لنفسه جاز أن يترك فعل نفسه، ولو توهمناه تاركاً لفعل نفسه توهمناه معدوماً؛ لأن كل متروك معدوم في حال تركه، وإذا أثبتناه تاركاً أثبتناه فاعلاً للترك، وإذا أثبتناه فاعلاً أثبتناه موجوداً؛ لأن الفاعل لا بد أن يكون موجوداً في حال فعله، وإذا كنا نقول: «إنه تارك لفعل نفسه» نفينا أن يكون موجوداً؛ لأن المتروك معدوم في حال تركه، وبقولنا: «إنه تارك» أنه موجود؛ لأن التارك فاعل للترك، والفاعل
(١) «اثنين» ساقط من (أ).
(٢) في (٢): فيه.
(٣) «في» ساقطة من (أ).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).