الرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين تعالى عن ذلك
  يتجلى(١) إلا بالتجلي الذي به يدرك، ولن يدرك من ربنا إلا جلالته وآياته وتدبيره وصرفه، فبذلك يتجلى الله، وذلك أنه سبحانه ليس بشخص أحدث في الجبل عقلاً يدرك به ما يتجلى له، فإن الله تبارك وتعالى أحدث آية فتجلى الله للجبل، وجعلها آية سماوية ولم تكن أرضية. وقال بعض العلماء: أبرز بعض العرش للجبل، رواه يوسف بن الأسباط عن الثوري، وذلك قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}[الأعراف: ١٤٣]، فعرف الجبل ربه بتجلي الرب له بما أظهر له، فعظم الجبل الله، فبلغ من تعظيم الجبل لله أن تقطع وساخ وذهب. وإن الله جعل ذلك موعظة للقلوب القاسية لتلين، والقلوب الراكدة لتسترشد، ولأن ترجع القلوب إلى ربها بشدة الفكر والتعظيم لله العظيم.
  فقال لموسى: {لَنْ تَرَانِي}[الأعراف: ١٤٣]، من وجه ما سألت، لأن التجلي إنما يكون من وجه يدرك من المتجلي. فتجلى الأشخاص للأبصار، ولا تجلى لغير الأدوات من الأسماع والآذان والملامس، وقد تجلى الأصوات للأسماع، وإنما يتجلى المتجلي من وجه ما يدرك به، فقد يقول السامع للكلام: قد تجلى لي هذا الكلام، ولا يراد به عيان البصر.
  والله تبارك وتعالى ليس بشخص فتجاهره الأبصار، ولا هو صوت فتوعيه الأسماع، ولا رائحة فتشمه المشام، ولا حار ولا بارد، ولا خشن ولا لين، فتذوقه اللهوات، ولا تلمسه الأيدي، لأنه سبحانه خلق الأسماع وما أدركت، والأبصار وما جاهرت، والمشام وما شمت، واللهوات وما ذاقت، والأيدي وما لمست، فهذه الخمس المدرِكات، والخمس المدرَكات كلها محدثات مخلوقات، والله سبحانه لا يشبه شيئاً منها ولا فيها شيء يشبه الله، وكذلك لا يتجلى الله من وجه ما تتجلى هي؛ لأنها مخلوقات، وإنما يتجلى من وجه ما يجوز من صفته،
(١) في (أ، ب): لا يجلى. وظنن فيهما بيتجلى.