مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي،

القاسم بن إبراهيم الرسي (المتوفى: 246 هـ)

الرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين تعالى عن ذلك

صفحة 189 - الجزء 1

  واعلم أن الله ø إذا مدح نفسه بمدحة لم يزلها عن نفسه في آخرة ولا دنيا، كذلك قال الله سبحانه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}⁣[الأنعام: ١٠٣]، فالله لا يزيل مدائحه.

  وزعم العماة أن محمداً ÷ رأى ربه في الدنيا حين أسري به؛ تكذيباً للقرآن، ورداً على الرحمن، واحتجوا بقول الله ø: {وَلَقَدْ رَأَىهُ نَزْلَةً أُخْرَى ١٣ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ١٤}⁣[النجم]، فظنوا أنه رأى ربه، وإنما ذلك جبريل صلى الله عليه، رآه نبي الله على خلقته التي عليها جُبِل، ولم يره النبي صلى الله عليهما على تلك الخلقة قط إلا مرتين، جعل الله ذلك آية بينة وكرامة شريفة عالية، وذلك قوله ø: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ١٨}⁣[النجم]، فأين الله ø من آياته؟! وكيف يتوهم أن النبي ÷ رأى الله والله يقول: {رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ١٨}⁣[النجم]، وآيات ربه غير ربه، وإنما وقعت الرؤية من النبي ÷ على الذي هو من آيات ربه الكبرى، وليس الله سبحانه بالحواس مدركاً.

  وتوهموا أن تجلي الرب سبحانه للجبل هو أن بدى للجبل وبرز له بذاته، من غير أن يكون للجبل من المقام في طاعته والمنزلة الرفيعة ما لموسى صلى الله عليه، مع ما اختص الله به موسى بكلامه إياه تكليماً، واستخلاصه إياه بالرسالة، ثم سأل موسى ومسألته لله أن يراه بزعمهم ذلك، وكان ذلك منه دليلاً، ثم خص الجبل الذي لم يكن الله كلمه تكليماً ولا اصطفاه برسالته فبدى له بذاته وبرز له متجلياً، وخصه بكرامة لم يجعلها لجبريل ولا لميكائيل ولا للملائكة المقربين ولا للمرسلين، وقد قال الله ø: إن أولياءه غداً ينظرون إليه في جواره، ليس ذلك النظر إحاطة ولا تحديداً، بل ينظرون إليه من غير تحديد، وذلك النظر هو أفضل من دركهم.

  والدرك دركان: فدرك هو المشاهدة والملاقاة جهرة.

  والدرك الثاني: ما يرد على القلب، وقد أدرك المؤمنون في الدنيا ربهم وعرفوه بقلوبهم؛ فلذلك أطاعوه، وذلك لما أحبوه. ولهم في هذا الدرك سرور لا يغيب عليهم في السرور الذي نالوه من معرفة الدرك لله، والمؤمنون يتفاضلون في الدرك