[أدلة أخرى على وجوب الإمامة]
  ولما كانوا إلى ما ذكرنا مضطرين، وفي أصل الفطرة عليه مفطورين، تفرقوا في أنواع الصناعات، واحتالوا للمكسب بضروب البياعات، فلم يكن لهم عند ذلك بدٌّ في البَدِيِّ الأول من مُعلِّم يقوم عليهم، ويبين لهم أقدار مواقع مصالح ذلك فيهم؛ ليتعاملوا بها وعليها، ويصيروا إلى مصالحهم فيها، وإلا فسدوا وفنوا، وهلكوا ولم يبقوا.
  ثم لا بد لمعلمهم ولولي أدب تعليمهم مِن أن يكون عالماً بجهات منافع الأشياء، مأموناً عليهم في الدين والدنيا؛ لأنه إذا كان على غير ذلك كان مثلهم، يسيء ويجهل في الأمور جهلهم. ثم لا يكون مع هذا يجب عليهم اتباعه، وقبول ما تقدم من أمره واستماعه، مع ما يدعوهم إليه من الكف عن كثير مما يحبون، ويأمرهم به من الدخول في كثير مما يكرهون - إلا بأن يكون لهم في خلافه مُخِّوفاً بعقاب، وفي الانتهاء إلى معهود أمره مُوجِباً لثواب.
  وذلك أنه لا يكون أن ينقادوا له حتى يؤدبهم ويقبلوا قوله إلا بافتراق درجة المطيع والعاصي، وتباين مكان المحسن عنده والمسيئ، وذلك فما لا يدخله تَفُّرق، ولا يفرق بينه مُفرِّق، إلا من حيث قلنا وعلى ما مثلنا.
  ولا يكون مخوفاً للعاصي بعقابه ولا داعياً للمطيعين إلى ثوابه إلا بدلائلِ أعلامٍ بينة، تُفرِّق بين المدعي منزلته وبينه، ولا يجوز أن تكون أعلامه مما يُقدر على مثلها، فلا يؤمن على فعلها وممكن نيلها مُدَّعي منزلته ظلماً وعدواناً، وفسقاً وطغياناً، ولا تكون الدلالة عليها وشاهد علمِ الإبانة فيها إلا من الله، لا يُحدثُ غير الله خلقها، ولا يحسن سوى من هَيَ عليه دلالةٌ تَخَلُّقها، وكانت من الله كغيرها من دلائله في ضوء منيرها، وإسفار نور مبينها، وإبانتها من الأئمة(١) بعينها، وانقطاع عذر المُعْتَلِّين على الله في رفضها، بعقد لو كان منهم لما نُصب من
(١) في نسخة: الأثمة.