[تأكيد الله لأمر المهاجرة وتشديده لفريضته فيها]
  وفي قرى الفسق والعتا والظلم وما أحل الله بها من الحطم القصم ما يقول سبحانه: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ١١ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ١٢ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ١٣}[الأنبياء]، فمن تأويل {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}: لعلكم تعرفون وتقررون أيها المترفون المساكنون بما كنتم في مساكنكم من الظلم تعملون، فلما عرف كُبَرَاء القرية وضعفاؤها بظلمهم فيها أجمعين قالوا عند الاعتراف والإقرار آسفين متحسرين: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١٤}، قال الله لا شريك له: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ١٥}.
  فكم وكم من نقمة وقرية منقصمة، الظلم من أهلها والعدوان قصَمَها، والفسق من ساكنها والعصيان حطَمَها، قد نبأكم الرحمن نبأها، وخبَّركم في كتابه مهواها، وما به كانت هلكتها من الظلم ورَداها؛ لتهاجروا فساقها وفسقها، ولتجانبوا أخلاقها وطرقها، ولتحذروا مثل الذي وقع بساكنيها ومجاوريها إذ لم ينكروا الظلم من مترفيها وجباريها، فأصبحت الجبابرة مقصومة، ومدائنها بالهلكة محطومة، وجيرتها معها مدمرة؛ إذ لم تكن لظلمهم مباينة مُنكِرَة، وفي مثل ذلك ما يقول الله سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ٥٨}[القصص].
  ومن ذلك ولذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله ÷: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ٩٣ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٩٤}[المؤمنون]، لأن من كان مقيماً فيهم وصل إليه ما وصل إليهم؛ لأنه لا يجاور أهل الظلم ويقيم فيهم إلا الظالمون الفاجرون، ولذلك يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ٣٣}[الأنفال]، يقول سبحانه: يعذبهم وهم يتوبون ويتورعون؛ لأن الاستغفار هو التوبة من أهل الكفر والإقصار،