[تأكيد الله لأمر المهاجرة وتشديده لفريضته فيها]
  فلم يُقِم أحد من المرسلين بدارٍ من دُور الظالمين إلا مبايناً داعياً، ومنتظراً فيها لأمر الله مراعياً.
  ومِن قبلُ ما حكم الله به من الهجرة على رسوله وعلى المؤمنين، فقد حكم به على من مضى قبلهم من المرسلين ومن تبعهم فكان معهم من عباده الصالحين، فقال في نوح - صلى الله عليه - وما صيَّره سبحانه من الهجرة إليه: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ٢٧ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٢٨}[المؤمنون]، ثم أمره سبحانه أن يحمده على إنجائه له منهم وما حكم به عليه من البعد عنهم، وكانت هجرته لهم قبل غرقهم على ظهر الماء، وفي الفلك بين الأرض والسماء، وقال صلى الله عليه: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ١١٧ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ١١٨}[الشعراء]، فقال سبحانه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ١١٩ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ١٢٠}، فأنجاه تبارك وتعالى منهم، وأغرقهم بعد هجرته # عنهم، فهاجر صلى الله عليه أهل الكفر والفسق قبل ما أحلَّه الله بهم من الهلكة والغرق؛ تأديةً لفرض الله عليه في الهجرة لهم، وقد كان قادراً على أن ينجيه وإن أقام معهم، ويغرقهم بجرمهم، وبما ركبوا من كفرهم وظلمهم.
  وقال إبراهيم صلى الله عليه: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ٩٩}[الصافات]، وقال # لأبيه إذ أجمع من الهجرة على ما أجمع عليه عند الرحيل والزوال، وعند ما جاءه له من السلام: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ٤٧ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ٤٨}[مريم]، فلما اعتزلهم وما يعبدون صلى الله عليه وأصنامهم،